Index
حكاية علي شار مع زمرد الجارية
Ali shaar with zumrud

وحكي أنه كان في ذلك الزمان وسالف العصر والأوان تاجر من التجار في بلاد خراسان اسمه مجد وله مال كثير وعبيد ومماليك وغلمان، إلا أنه بلغ من العمر ستين سنة ولم يرزق ولداً وبعد ذلك رزقه الله تعالى ولداً فسماه علياً، فلما نشأ الغلام صار كالبدر ليلة التمام. ولما بلغ مبلغ الرجال وحازصفات الكمال ضعف والده بمرض الموت فدعا بولده وقال له: يا ولدي إنه قد قرب وقت المنية وأريد أن أوصيك بوصية فقال له: وما هي يا والدي فقال له: اوصيك أنك لا تعاشر أحد من الناس وتجنب ما يجلب الضر واليأس وجليس السوء فإنه كالحداد إن لم تحرقك ناره يضره دخانه ومن أحسن قول الشاعر:

ما في زمانك من ترجو مودتـه ولا صديق إذا خان الزمان وفى

فعش فريداً ولا تركن إلى أحـد ها قد نصحتك فيما قلته وكفى

فقال: يا أبي سمعت وأطعت ثم ماذا أفعل؟ فقال: افعل الخير إذا قدرت ودم على صنع الجميل من الناس واغتنم بذل المعروف فما في كل وقت ينجح الطلب وما أحسن قول الشاعر:

ليس في كل ساعة وأوان تأتي صنائع الإحسـان

فإذا أمسكتك بادر إليهـا حذر من تعذر الإمكان

فقال: سمعت وأطعت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخمسين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الصبي قال لأبيه: سمعت وأطعت ثم ماذا؟ قال: يا ولدي احفظ الله يحفظك وصن مالك ولا تفرط فيه فإنك إن فرطت فيه تحتاج إلى أقل الناس واعلم أن قيمة المرء ما ملكت يمينه وما أحسن قول الشاعر:

إن قل مالي فلا خل يصاحبنـي وإن زاد مالي فكل الناس خلاني

فكم عدو لأجل المال صاحبنـي وكم صديق لفقد المال عادانـي

فقال: ثم ماذا قال: يا ولدي شاور من هو أكبر منك سناً ولا تجعل في الأمر الذي تريده وارحم من هو دونك يرحمك من هو فوقك ولا تظلم أحداً فيسلط الله عليك من يظلمك وما أحسن قول الشاعر:

أقرن برأيك غيرك واستشر فالرأي لا يخفى على الاثنين

فالمرء مرآة تريه وجـهـه ويرى قفاه بجمع مرآتـين

وقول الآخر:

تأن ولا تعجـل لأمـر تـريده و كن راحماً للناس تبلى براحم

فما من يد إلا يد الله فوقـهـا ولا ظالم إلا سيبلى بـظـالـم

وقول الآخر:

ولاتظلمن إذا كنت مقتـدراً إن الظلوم على حدً من النقم

تنام عيناك والمظلوم منتبـه يدعو عليك وعين الله لم تنم

وإياك وشرب الخمر فهو رأس كل شر وشربه مذهب العقول ويزري بصاحبه وما أحسن قول الشاعر:

تالله لا خامرتني الخمر ما عـلـقـت روحي بجسمي وأقوالي بإفصاحـي

ولا صبوت إلـى مـشـمـولة أبـداً يوماً ولا اخترت ندماناً سوى الصاحي

فهذه وصيتي لك فاجعلها بين عينيك والله خليفتي عليك ثم غشي عليه فسكت ساعة واستفاق فاستغفر الله وتوفي إلى رحمة الله تعالى فبكى عليه ولده وانتحب ثم أخذ في تجهيزه على ما يجب ومشيت في جنازته الأكابر والأصاغر وصار القراء يقرؤن حول تابوته وما ترك من حقه شيئاً إلا وفعله ثم صلوا عليه وواروه التراب وكتبوا على قبره هذين البيتين:

خلقت من التراب فصرت حياً وعلمت الفصاحة في الخطاب

وعدت إلى التراب فصرت ميتاً كأنك ما برحت من التـراب

حزن عليه ولده علي شار حزناً شديداً وعمل عزاءه على عادة الأعيان واستمر حزيناً على أبيه إلى أن ماتت أمه بعده بمدة يسيرة ففعل بوالدته مثل ما فعل بأبيه ثم بعد ذلك جلس في الدكان يبيع ويشتري ولا يعاشر أحداً من خلق الله تعالى عملاً بوصية أبيه واستمر على ذلك مدة سنة وبعد السنة دخلت عليه النساء الزواني بالحيل وصاحبوه حتى مال معهم إلى الفساد وأعرض عن طريق الرشاد وشرب الراح بالأقداح أو رواح وقال في نفسه إن والدي جمع لي هذا المال وأنا إن لم أتصرف فيه فلمن أخليه والله لا أفعل إلا كما قال الشاعر:

إن كنت دهره كله تحوي إليك تجمع

فمتى بما حصلته وحويته تتمـتـع

وما زال علي شار يبذل في المال إناء الليل وأطراف النهار حتى ذهب ماله كله وافتقر حاله وتكدر باله وباع الدكان والأماكن وغيرها ثم بعد ذلك باع ثياب بدنه ولم يترك لنفسه غير بدلة واحدة فلما ذهبت السكرة وجاءت الفكرة وقع في الحسرة وقعد يوماً من الصبح إلى العصر بغير إفطار فقال في نفسه أنا أدور على الذين كنت أنفق مالي عليهم لعل أحداً منهم يطعمني في هذا اليوم فدار عليهم جميعاً وكلما طرق باب واحد منهم ينكر نفسه ويتوارى منه حتى أحرقه الجوع ثم ذهب إلى سوق التجار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والخمسين بعد الثلاثمئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي شار أحرقه الجوع فذهب إلى سوق التجار فوجد حلقة إزدحام والناس مجتمعون فيها فقال في نفسه يا ترى ما سبب اجتماع هؤلاء الناس والله لا أنتقل من هذا المكان حتى أتفرج على هذه الحلقة ثم تقدم فوجد جارية خماسية معتدلة القد موردة الخد قاعدة النهد قد فاقت أهل زمانها في الحسن والجمال والبهاء والكمال كما قال بعض واصفيها:

كما اشتهت خلقت حتى إذا كملـت في قالب الحسن لا طول ولا قصر

والحسن أصبح مشغوفاً بصورتهـا والصد أبعد لها والتيه والـخـفـر

فالبدر طلعتها والغصن قامـتـهـا والمسك نكهتها ما مثلهـا بـشـر

كأنها أفرغت مـن مـاء لـؤلـؤة في كل جارحة من حسنها قـمـر

وكانت تلك الجارية اسمها زمرد فلما نظرها علي شار تعجب من حسنها وجمالها وقال والله لا أبرح حتى انظر القدر الذي يبلغه ثمن هذه الجارية وأعرف الذي يشتريها، ثم وقف بجملة التجار فظنوا أنه يشتري لما يعلمون من غناه بالمال الذي ورثه من والده ثم إن الدلال وقف على رأس الجارية وقال: يا تجار يا أرباب الأموال من يفتح باب السعر في هذه الجارية سيدة الأقمار الدرة السنية زمرد السنورية بغية الطالب ونزهة الراغب فافتحوا الباب فليس على من فتحه لوم ولا عتاب فقال بعض التجار علي بخمسمائة دينار.

وقال آخر: وعشرة فقال شيخ يسمى رشيد الدين وكان أزرق العين قبيح المنظر: ومائة وقال آخر: وعشرة قال الشيخ: بألف دينار، فحبس التجار ألسنتهم وسكتوا فشاور الدلال سيدها فقال: أنا حالف أني لا أبيعها إلا لمن تختاره فشاورها فجاء الدلال إليها وقال: يا سيدة الأقمار إن هذا التاجر يريد أن يشتريك فنظرت إليه فوجدته كما ذكرنا فقالت للدلال: ألا أباع لشيخ أوقعته الهموم في أسوأ حال ولله در من قال:

سألتها قبـلة يومـاً وقـد نـظـرت شيبي وقد كنت ذا مـال وذا نـعـم

فأعرضت عن مرامي وهـي قـائلة لا والذي خلق الإنسـان مـن عـدم

ما كان لي في بياض الشيب من أرب أفي الحياة يكون القطن حشو فمـي

فلما سمع الدلال قولها قال لها: والله أنك معذورة وقيمتك عشرة آلاف دينار ثم أعلم سيدها أنها ما رضيت بذلك الشيخ فقال: شاورها في غيره فتقدم إنسان آخر وقال: علي بما أعطى فيها الشيخ الذي لم ترض به فنظرت إلى ذلك الرجل فوجدته مصبوغ اللحية فقالت ما هذا العيب والريب وسواد وجه الشيب وأنشدت هذين البيتين:

قالت أراك خضبت الشيب قلت لها سترته عنك يا سمعي ويا بصري

فقهقهت ثم قالت إن ذا عـجـب تكاثر الغش حتى صار بالشعـر

فلما سمع الدلال شعرها قال لها: والله إنك صدقت فقال التاجر: ما الذي قالت فأعاد عليه الأبيات فعرف أن الحق على نفسه وامتنع من شرائها فتقدم تاجر آخر وقال: شاورها على الثمن الذي سمعته فشاورها فنظرت إليه فوجدته أعور فقالت: هذا أعور فقال لها الدلال: يا سيدتي انظري من يعجبك من الحاضرين وقولي عليه حتى أبيعك له، فنظرت إلى حلقة التجار وتفرستهم واحداً بعد واحد فوقع نظرها على علي شار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والخمسين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية لما وقع نظرها على علي شار، نظرته نظرة أعقبتها ألف حسرة وتعلق قلبها به لأنها كان بديع الجمال وألطف من نسيم الشمال، فقالت: يا دلال أنا لا أباع إلا لسيدي صاحب هذا الوجه المليح والقد الرجيح الذي قال فيه بعض واصفيه:

أبرزوا وجهك الجميل ولاموا من افتـتـن

لو أرادوا صيانـتـي ستروا وجهك الحسن

فلا يمكنني إلا هو لأن خده أسيل ورضابه سلسبيل وريقه يشفي العليل ومحاسنه تحير الناظم والناثر كما قال فيه الشاعر:

فريق خمر وأنـفـاسـه مسك وذاك الثغر كافور

أخرجه رضوان من داره مخافة أن تفتن الحـور

يلومه الناس على تيهـه والبدر مهما تاه معذور

صاحب الشعر الأجعد والخد المورد واللحظ الساحر الذي قال فيه الشاعر:

وشادن بوصال منـه واعـدنـي فالقلب في قلـق مـنـتـظـره

أجفانه ضمنت لي صدق موعـده فكيف توفي ضماناً وهي منكسره

فلما سمع الدلال ما أنشدته من الأشعار في محاسن علي شار تعجب من فصاحتها وإشراق بهجتها فقال له صاحبها: لا تعجب من بهجتها التي تفضح شمس النهار ولا من حفظها لرقائق الأشعار فإنها مع ذلك تقرأ القرآن العظيم بالسبع قراآت وتروي الحديث بصحيح الروايات وكتب بالسبعة أقلام وتعرف العلوم ما لا يعرفه العالم العلام ويداها أحسن من الذهب والفضة فإنها تعمل الستور الحرير وتبيعها فتكسب في كل واحدة خمسين ديناراً أو تشتغل الستر في ثمانية أيام فقال الدلال: يا سعادة من تكون هذه في داره ويجمعها من ذخائر أسراره.
ثم قال له سيدها: بعها لكل من أرادته فرجع الدلال إلى علي شار وقبل يديه وقال: يا سيدي اشتر هذه الجارية فإنها اختارتك وذكر له صفاتها وما تعرفه وقال له: هنيئاً لك إذا اشتريتها فإنه قد أعطاك من لا يبخل بالعطاء فأطرق علي شار برأسه ساعة إلى الأرض وهو يضحك على نفسه ويقول في سره: أنا لي هذا الوقت من غير إفطار ولكن أختشي من التجار أن أقول ما عندي مال أشتريها.

فنظرت الجارية إلى إطراقه وقالت للدلال خذ بيدي وامض بي إليه حتى أعرض نفسي عليه وأرغبه في أخذي فإني لا أباع إلا له فأخذها الدلال، وأوقفها قدام علي شار وقال له: ما رأيك يا سيدي فلم يرد له جواباً، فقالت الجارية: يا سيدي وحبيب قلبي مالك لا تشتريني، فاشترني بما شئت وأكون سبب سعادتك فرفع رأسه إليها وقال: هل الشراء بالغصب فأنت غالية بألف دينار فقالت له: ياسيدي اشترني بتسعمائة قال: لا، قالت: بثمانمائة قال: لا فما زالت تنقص من الثمن إلى أن قالت له: بمائة دينار قال: ما معي مائة كاملة فضحكت وقالت له: كم تنقص مائتك؟ قال: ما معي لا مائة ولا غيرها والله ما أملك لا أبيض ولا أحمر من درهم، ولا دينار فانظري لك زبوناً غيري. فلما علمت أنه ما معه شيء قالت له خذ بيدي على أنك تقبلني في عطفة ففعل ذلك فأخرجت من جيبها كيساً فيه ألف دينار وقالت زن منه تسعمائة في ثمني وابق المائة معك تنفعنا ففعل ما أمرته به واشتراها بتسعمائة ودفع ثمنها من ذلك الكيس ومضى بها إلى الدار فلما وصلت إلى الدار وجدتها قاعاً صفصفاً لا فرش بها ولا أواني فأعطته ألف دينار وقالت له: امض إلى السوق واشتر لنا بثلثمائة دينار فرشاً وأواني للبيت ففعل، ثم قالت له: اشتر لنا مأكلاً ومشروباً. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والخمسين بعد الثلاثمئة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت له: اشتر لنا مأكولاً ومشروباً بثلاثة دنانير ففعل ثم قالت له: اشتر لنا خرقة حرير قدر ستر واشتر قصباً أصفر وأبيض وحريراً ملوناً سبعة ألوان ففعل، ثم إنها فرشت البيت وأوقدت الشمع وجلست تأكل وتشرب هي وإياه وبعد ذلك قاموا إلى الفراش وقضوا الغرض من بعضهما ثم باتا متعانقين خلف الستائر وكان كما قال الشاعر:

زر منتحب ودع كلام الحـاسـد ليس الحسود على الهوى بمساعد

إني نظرتك في المنام مضاجعـي ولثمت من شفتيك أحلـى بـارد

حق صحيح كـل مـا عـينـتـه ولسوف أبلغه برغم الحـاسـد

لم تنظر العينان أحسن منـظـراً من عاشقين على فـراش واحـد

متعانقين عليهما حللي بالـرضـا متوسدين بمعصـم وبـسـاعـد

وإذا تألفت القلوب على الـهـوى فالناس تضرب في حـديد بـارد

يا من يلوم على الهوى أهل الهوى فهو المراد وعش بذاك الواحـد

واستمرا متعانقين إلى الصباح وقد سكنت محبة كل واحد منهما في قلب صاحبه ثم أخذت الستر وطرزته بالحرير الملون وزركشته بالقصب وجعلت فيه منطقة بصور طيور وصورت في دائرها صور الوحوش ولم تترك وحشاً في الدنيا إلا وصورت صورته فيه ومكثت تشتغل فيه ثمانية أيام فلما فرغ صقلته وطوته ثم أعطته لسيدها وقالت له: اذهب به إلى السوق وبعه بخمسين ديناراً للتاجر واحذر أن تبيعه لأحد عابر طريق، فإن ذلك يكون سبباً للفراق بيني وبينك أن لنا أعداء لا يغفلون عنا. فقال: سمعاً وطاعة ثم ذهب إلى السوق وباعه لتاجر كما أمرته وبعد ذلك اشترى الخرقة والحرير والقصب على العادة وما يحتاجان إليه من الطعام وحضر لها ذلك وأعطاها بقية الدراهم، فصارت كل ثمانية أيام تعطيه ستراً يبيعه بخمسين دينار ومكثت على ذلك سنة كاملة وبعد سنة راح إلى السوق بالستر على العادة وأعطاه للدلال فعرض له نصراني فدفع له ستين ديناراً، فامتنع فما زال يزيده حتى عمله بمائة دينار وبرطل الدلال بعشرة دنانير فرجع الدلال على علي شار وأخبره بالثمن وتحيل عليه في أن يبيع الستر للنصراني بذلك المبلغ وقال له سيدي: لا تخف من هذا النصراني وما عليك منه بأس وقمت التجار عليه فباعه للنصراني وقلبه مرعوب ثم قبض المال ومضى إلى البيت فوجد النصراني ماشياً خلفه. فقال له: يا نصراني مالك ماشياً خلفي؟ فقال له: يا سيدي إن لي حاجة في صدر الزقاق الله لا يحوجك فما وصل علي شار إلى منزله إلا والنصراني لاحقه فقال: يا ملعون ما لك تتبعني أينما أسير؟ فقال: يا سيدي اسقني شربة ماء فإني عطشان وأجرك على الله تعالى فقال علي شار في نفسه: هذا رجل ذمي وقصدني في شربة ماء والله لا أخيبه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والخمسين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي شار قال في نفسه: هذا رجل ذمي وقصدني في شربة ماء والله لا أخيبه ثم دخل البيت وأخذ كوز ماء فرأته جاريته زمرد فقالت: يا حبيبي هل بعت الستر؟ قال: نعم. قالت: لتاجر أو لعابر سبيل قد أحس قلبي بالفراق. قال: ما بعته إلا لتاجر قالت: أخبرني بحقيقة الأمر حتى أتدارك شأني وما بالك أخذت كوز الماء قال: لأسقي الدلال. فقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم أنشدت هذين البيتين:

يا طالباً للفراق مهـلاً فلا يغرنك العـنـاق

مهلاً فطبع الزمان غدر وآخر الصحبة الفراق

ثم خرج بالكوز فوجد النصراني داخلاً في دهليز البيت فقال له: هل وصلت إلى هنا يا كلب؟ كيف تدخل بلا أذني؟ فقال: يا سيدي لا فرق بين الباب والدهليز وما بقيت أنتقل من مكاني هذا إلا للخروج وأنت لك الفضل والإحسان والجود والإمتنان ثم إنه تناول كوز الماء وشرب منه وبعد ذلك ناوله إلى علي شار فأخذه وانتظره أن يقوم فما قام فقال له: لأي شيء لم تقم وتذهب في حال سبيلك؟ فقال: يا مولاي إني قد شربت ولكن أريد منك تطعمني مهما كان في البيت حتى إذا كان كسرة قرقوشة وبصلة، فقال له: قم بلا مماحكة ما في البيت شيء، فقال: يا مولاي إن لم يكن في البيت شيء فخذ هذه المائة دينار وائتني بشيء من السوق ولو برغيف واحد ليصير بيني وبينك خبز وملح.

فقال علي شار في سره إن هذا النصراني مجنون فأنا آخذ منه المائة دينار آتي له يساوي درهمين وأضحك عليه فقال النصراني: يا سيدي إنما أريد شيئاً يطرد الجوع ولو رغيفاً واحداً وبصلة فخير الزاد ما دفع الجوع. فقال علي شار: اصبر هنا حتى أقفل القاعة وآتيك بشيء من السوق، فقال: سمعاً وطاعة ثم خرج وقفل القاعة وحط على الباب كيلو وأخذ المفتاح معه وذهب إلى السوق واشترى جبناً مقلياً وعسلاً أبيض وموزاً وخبزاً وأتى به إليه فلما نظر النصراني إلى ذلك قال: يا مولاي هذا شيء كثير يكفي عشرة رجال وأنا وحدي فلعلك تأكل معي فقال له: كل وحدك فإني شبعان فقال له: يا مولاي قالت الحكماء: من لم يأكل مع ضيفه فهو ولد زنا. فلما سمع علي شار من النصراني هذا الكلام جلس وأكل معه شيئاً قليلاً وأراد أن يرفع يده وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والخمسين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي شار جلس وأكل معه شيئاً قليلاً وأراد أن يرفع يده فأخذ النصراني موزة وقشرها وشقها نصفين وجعل في نصفها بنجاً مكرراً ممزوجاً بأفيون الدرهم منه يرمي الفيل، ثم غمس نصف الموزة في العسل وقال: يا مولاي وحق دينك أن تأخذ هذه فاستحى علي شار أن يحنثه في يمينه فأخذها منه وابتلعها فما استقرت في بطنه، حتى سبقت رأسه رجليه وصار كأنه له سنة وهو راقد.

فلما رأى النصراني ذلك قام على قدميه كأنه ذئب معط أو قضاء مسلط وأخذ منه مفتاح القاعة وتركه مرمياً وذهب يجري إلى أخيه وأخبره بالخبر وسبب ذلك أن أخا النصراني هو الشيخ الهرم الذي أراد أن يشتريها بألف دينار فلم ترض به وهجته بالشعر وكان كافراً في الباطن ومسلماً في الظاهر وسمى نفسه رشيد الدين ولما هجته ولم ترض به شكا إلى أخيه النصراني الذي تحيل في أخذها من سيدها علي شار وكان اسمه برسوم. فقال له: لا تحزن فأنا أتحيل لك أخذها بلا درهم ولا دينار لأنه كان كاهناً ماكراً مخادعاً فاجراً ثم إنه لم يزل يمكر ويتحيل حتى عمل الحيلة التي ذكرناها وأخذ المفتاح وذهب إلى أخيه وأخبره بما حصل وركب بغلته وأخذ غلمانه وتوجه مع أخيه إلى بيت علي شار وأخذ معه كيساً فيه ألف دينار إذا صادفه الوالي فيعطيه إياه ففتح القاعة وهجمت الرجال الذين معه على زمرد وأخذوها قهراً وهددوها بالقتل إن تكلمت وتركوا المنزل على حاله ولم يأخذوا منه شيئاً وتركوا علي شار راقداً في الدهليز ثم ردوا الباب عليه وتركوا مفتاح القاعة في جانبه ومضى بها النصراني إلى قصره ووضعها بين جواريه وسراريه وقال لها: يا فاجرة أنا الشيخ الذي ما رضيت به وهجوتيني وقد أخذتك بلا درهم ولا دينار.

فقالت له وقد تغرغرت عيناها بالدموع: حسبك الله يا شيخ السوء حيث فرقت بيني وبين سيدي فقال لها: يا فاجرة يا عشاقة سوف تنظرين ما أفعل بك من العذاب وحق المسيح والعذراء إن لم تطاوعيني وتدخلي في ديني لأعذبنك بأنواع العذاب فقالت له: لو قطعت لحمي قطعاً ما أفارق دين الإسلام ولعل الله تعالى يأتيني بالفرج القريب إنه على ما يشاء قدير وقد قالت العقلاء: مصيبة في الأبدان ولا مصيبة في الأديان. فعند ذلك صاح على الخدم والجواري وقال لهم: اطرحوها فطرحوها وما زال يضربها ضرباً عنيفاً وصارت تستغيث فلا تغاث ثم أعرضت عن الإستغاثة وصارت تقول: حسبي الله وكفى إلى أن انقطع نفسها وخفي أنينها واشتفى قلبه منها ثم قال للخدم: اسحبوها من رجليها وارموها في المطبخ ولا تطعموها شيئاً ثم بات الملعون تلك الليلة ولما أصبح الصباح طلبها وكرر عليها الضرب وأمر الخدم أن يرموها في مكانها ففعلوا فلما رد عليها الضرب قالت: لا إله إلا الله محمد رسول الله حسبي الله ونعم الوكيل ثم اسغاثت بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والخمسين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زمرد استغاثت بسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، هذا ما كان من أمرها وأما ما كان علي شار فإنه لم يزل راقداً إلى ثاني يوم ثم طار البنج من رأسه ففتح عينيه وصاح قائلاً: يا زمرد فلم يجبه أحد فدخل القاعة فوجد الجو قفراً والمزار بعيداً فعلم أنه ما جرى عليه هذا الأمر إلا من النصراني فحن وبكى وأن واشتكى وأفاض العبرات وأنشد هذه الأبيات:

يا وجد لا تبقى عـلـي ولا تـذر ها مهجتي بين المشقة والخطـر

يا سادتي رقوا لـعـبـدٍ ذل فـي شرع الهوى وغني قوم افتـقـر

ما حيلة الرامي إذا التقت الـعـدا وأراد يرمي السهم فانقطع الوتـر

وإذا تكاثرت الهموم على الفـتـى وتراكمت أين المفر من الـقـدر

ولكم أحاذر من تفرق شـمـلـنـا ولكن إذا نزل القضاء عمي البصر

وندم حيث لا ينفعه الندم وبكى ومزق أثوابه وأخذ بيديه حجرين ودار حول المدينة وصار يدق بهما في صدره ويصيح قائلاً: يا زمرد فدارت الصغار حوله وقالوا مجنون فكل من عرفه بكى عليه ويقول هذا فلان ما الذي جرى له ولم يزل على هذه الحالة إلى آخر النهار فلما جن عليه الليل نام في بعض الأزقة إلى الصباح ثم أصبح دائراً بالأحجار حول المدينة إلى آخر النهار وبعد ذلك رجع إلى قاعته ليبيت فيها فنظرته جارية وكانت امرأة عجوز من أهل الخير فقالت له: يا ولدي سلامتك متى جننت فأجابها بهذين البيتين:

قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهـم ما لذ العيش إلا للـمـجـانـين

دعوا جنوني وهاتوا من جننت بـه إن كان يشفي جنوني ولا تلوموني

فعلمت الجارية العجوز أنه عاشق مفارق فقالت: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم يا ولدي أشتهي منك أن تحكي خبر مصيبتك عسى الله أن يقدرني على مساعدتك عليها بمشيئتة فحكى لها جميع ما وقع له مع برسوم النصراني أخي الكاهن الذي سمى نفسه رشيد الدين فلما علمت ذلك قالت له: يا ولدي إنك معذور ثم أفاضت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:

كفى المحبين في الدنيا عذابهم تالله لا عذبتهم بعدها سقـر

لأنهم هلكوا عشقاً وقد كتموا مع العفاف بهذا يشهد الخبر

فلما فرغت من شعرها قالت له: يا ولدي قم واشتر قفصاً مثل أقفاص أهل الصاغة واشتر أساور وخواتم وحلقاً يصلح للنساء ولا تبخل بالمال وضع جميع ذلك في القفص وهات القفص وأنا أضعه على رأسي في صورة دلالة وأدور وأفتش عليها في البيوت حتى أقع على خبرها إن شاء الله تعالى.

ففرح علي شار بكلامها وقبل يدها ثم ذهب بسرعة وأتى بما طلبته فلما حضر ذلك عندها قامت ولبست مرقعة ووضعت على رأسها آزاراً عسلياً وأخذت في يدها عكازاً وحملت القفص ودارت في العطف والبيوت ولم تزل دائرة من مكان إلى مكان ومن حارة إلى حارة ومن درب إلى درب إلى أن دلها الله تعالى على قصر الملعون رشيد الدين النصراني فسمعت من داخله أنيناً فطرقت الباب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والخمسين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن العجوز سمعت من داخل البيت أنيناً فنزلت لها جارية ففتحت لها الباب وسلمت عليها فقالت لها العجوز: معي هذه الحويجات للبيع هل عندكم من يشتري منها شيئاً فقالت لها الجارية: نعم ثم أدخلتها الدار وأجلستها وجلس الجواري حولها وأخذت كل واحدة شيئاً منها وصارت العجوز تلاطف الجواري وتتساهل معهن في الثمن ففرح بها الجواري بسبب معروفها ولين كلامها وهي تتأمل من جهات المكان على صاحب الأنين فلاحت منها التفاتة إليها فحابتهم وأحسنت إليهم وتأملت فوجدت زمرد مطروحة فعرفتها فبكت وقالت لهم: يا أولادي ما بال هذه الصبية في هذا الحال؟ فحكى الجواري كل القصة وقلن لها: الأمر ليس باختيارنا ولكن سيدنا أمر بهذا وهو مسافر الآن، فقالت لهم: يا أولادي لي عندكم حاجة وهي أنكم تحلون هذه المسكينة من الرباط إلى أن تعلموا بمجيء سيدكم فتربطوها كما كانت وتكسبوا الأجر من رب العالمين فقلن لها: سمعاً وطاعة ثم إنهم حلوها وأطعموها وسقوها، ثم قالت العجوز: يا ليت رجلي انكسرت ولا دخلت لكم. وبعد ذلك ذهبت إلى زمرد وقالت لها: يا ابنتي سلامتك سيفرج الله عنك ثم ذكرت لها إنها من عند سيدها علي شار وواعدتها أنها في ليلة غد تكون حاضرة وتلقي سمعها للحس وقالت لها: إن سيدك ياتي إليك تحت مصطبة القصر ويصفر لك فإذا سمعت ذلك فانزلي له من الطاقة بحبل وهو يأخذك ويمضي فشكرتها على ذلك. ثم خرجت العجوز وذهبت إلى علي شار وأعلمته وقالت له: توجه في الليلة القابلة نصف الليل إلى الحارة الفلانية فإن بيت الملعون هناك وعلامته كذا وكذا فقف تحت قصره وصفر فإنها تتدلى إليك فخذها وامضِ بها إلى حيث شئت، فشكرها على ذلك، ثم إنه صبرإلى أن جن الليل وجاء وقت الميعاد فذهب إلى تلك الحارة التي وصفتها له جارته ورأى القصر فعرفه وجلس على مصطبة تحته وغلبه النوم فنام وجل من لا ينام، واكن له مدة لم ينم من الوجد الذي به، فبينما هو نائم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والخمسين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أنه بينما هو نائم وإذا بلص من اللصوص خرج تلك الليلة في أطراف المدينة ليسرق شيئاً فرمته المقادير تحت قصر ذلك النصراني فدار حوله فلم يجد سبيلاً إلى الصعود إليه فرأى علي شار نائماً فأخذ عمامته وبعد أن أخذها لم يشعر إلا وزمرد طلعت في ذلك الوقت فرأته واقفاً في الظلام فحسبته سيدها فصفرت له فصفر لها الحرامي فتدلت بالحبل وصحبتها خرج ملآن ذهباً، فلما رآه اللص قال في نفسه: ما هذا إلا أمر عجيب له سبب غريب.

ثم حمل الخرج وحملها على أكتافه وذهب بهما مثل البرق الخاطف فقالت له: العجوز أخبرتني أنك ضعيف بسببي وها أنت أقوى من الفرس فلم يرد عليها جواباً فحسبت على وجهه فوجدت لحيته مثل مقشة الحمام وكأنه خنزيراً ابتلع ريشاً فطلع زغبه من حلقه ففزعت منه وقالت له: أي شيء أنت فقال لها: يا عاقرة أنا جوان الكردي من جماعة أحمد الدنف ونحن أربعون شاطراً وكلهم في هذه الليلة يفسقون في رحمك من العشاء إلى الصباح.

فلما سنعت كلامه بكت ولطمت وجهها وعلمت أن القضاء غلب عليها وأنه لا حيلة إلا التفويض إلى الله تعالى، فصبرت وسلمت الحكم إلى الله تعالى وقالت: لا إله إلا الله كلما خلصنا من هم وقعنا في هم أكبر، وكان السبب في مجيء جوان إلى هذا المحل أنه قال لأحمد الدنف: يا شاطر أنا دخلت هذه المدينة قبل الآن وأعرف فيها غاراً خارج البلد يسع أربعين نفساً وأنا أريد أن أسبقكم إليه وأخلي أمي من ذلك الغار ثم أعود إلى المدينة وأسرق منها شيئاً على بختكم وأحفظه على اسمكم إلى أن تحضروا فتكون ضيافتكم في هذا النهار من عندي.
فقال له أحمد الدنف: افعل ما تريد فخرج قبلهم وسبقهم إلى ذلك المحل ووضع أمه في ذلك الغار، ولما خرج من الغار رأى جندياً راقداً وعنده فرس مربوط فذبحه وأخذ فرسه وسلاحه وثيابه وأخفاها في الغار عند أمه وربط الحصان هناك ثم رجع إلى المدينة ومشى حتى وصل إلى قصر النصراني وفعل ما تقدم ذكره من أخذ زمرد الجارية، ولم يزل يجري بها إلى أن حطها عند أمه وقال لها: احتفظي عليها إلى حين أعود إليك في بكرة النهار ثم ذهب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والخمسين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن أن جوان الكردي قال لأمه: احتفظي عليها حتى أرجع إليك في بكرة النهار ثم ذهب فقالت زمرد في نفسها: وما هذه القفلة عن خلاص روحي بالحيلة كيف أصبر إلى أن يجيء هؤلاء الأربعون رجلاً فيتعاقبون علي حتى يجعلوني كالمركب الغريقة في البحر ثم إنها التفتت إلى العجوز أم جوان وقالت لها: يا خالتي أما تقومين بنا إلى الخارج حتى أفليك في الشمس فقالت: أي والله يا ابنتي فإن لي مدة وأنا بعيدة عن الحمام لأن هؤلاء الخنازير لم يزالوا دائرين بي من مكان إلى مكان فخرجت معها فصارت تفليها وتقتل القمل من رأسها إلى أن استلذت بذلك ورقدت فقامت زمرد ولبست ثياب الجندي الذي قتله جوان الكردي وشدت سيفه في وسطها وتعممت بعمامته حتى صارت كأنها رجل وركبت الفرس وأخذت الخرج الذهب معها وقالت: يا جميل الستر استرني بجاه محمد صلى الله عليه وسلم ثم إنها قالت في نفسها: إن رحت إلى البلد ربما يراني أحداً من أهل الجندي فلا يحصل لي خير ثم اعرضت عن دخول المدينة وسارت في البر الأقفر، ولم تزل سائرة بالخروج والفرس وتأكل من نبات الأرض وتطعم الفرس منه وتشرب وتعقبها من الأنهار مدة عشرة أيام وفي اليوم الحادي عشر أقبلت على مدينة طيبة أمينة بالخير مكينة قد ولى عنها فصل الربيع بزهره وورده فزهت أزهارها وتدفقت أنهارها وغردت أطيارها فلما وصلت إلى المدينة وقربت من بابها وجدت العساكر والأمراء وأكابر أهل المدينة كلهم مجتمعون ببابها ولا بد لذلك من سبب. ثم إنها قصدتهم فلما قربت منهم تسابق العساكر وترجلوا وقبلوا الأرض بين يديها وقالوا: الله ينصرك يا مولانا السلطان واصطفت بين يديها أرباب المناصب العساكر يرتبون الناس ويقولون لها: الله ينصرك، ويجعل قدومك مباركاً على المسلمين يا سلطان العالمين تبتك الله يا ملك الزمان يا فريد العصر والأوان فقالت لهم زمرد: ما خبركم يا أهل هذه المدينة؟ فقال الحاجب: إنه أعطاك من لا يبخل بالعطاء وجعلك سلطاناً على هذه المدينة وحاكماً على رقاب جميع من فيها واعلم أن عادة أهل هذه المدينة إذا مات ملكهم ولم يكن له ولد تخرج العساكر إلى ظاهر المدينة ويمكثون ثلاثة أيام فأي إنسان جاء من طريقك التي جئت منها يجعلونه سلطاناً عليهم والحمد لله الذي ساق لنا إنساناً من أولاد الترك جميل الوجه فلو طلع علينا أقل منك كان سلطاناً وكانت زمرد صاحبة رأي في جميع أفعالها فقالت: لا تحسبوا أنني من أولاد عامة الأتراك بل أنا من أولاد الأكابر لكنني غضبت من أهلي فخرجت من عندهم وتركتهم وانظروا إلى هذا الخرج الذهب الذي جئت به تحتي لأتصدق منه على الفقراء والمساكين طول الطريق فدعاو لها وفرحوا بها غاية الفرح وكذلك زمرد فرحت بهم، ثم قالت في نفسها بعد أن وصلت إلى هذا الأمر. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الستين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زمرد قالت في نفسها: بعد أن وصلت إلى هذا الأمر لعل الله يجمعني بسيدي في هذا المكان إنه على ما يشاء قدير، ثم سارت العسكر حتى دخلوا المدينة وترجل العسكر بين يديها حتى أدخلوها القصر فنزلت وأخذها الأمراء والأكابر من تحت إبطيها حتى أجلسوها على الكرسي وقبلوا الأرض بين يديها.

فلما جلست على كرسي الحكم أمرت بفتح الخزائن ففتحت وأنفقت على جميع العسكر فدعوا لها بدوام الملك وأطاعها العباد وسائر أهل البلاد واستمرت على ذلك مدة من الزمان وهي تأمر وقد صار لها في قلوب الناس هيبة عظيمة من أجل الكرم والعفة وأبطلت المكوس وأطلقت من في الحبوس ورفعت المظالم فأحبها جميع الناس وكلما تذكرت سيدها تبكي وتدعو الله أن يجمع بينها وبينه واتفق أنها تذكرته في بعض الليالي وتذكرت أيامها التي مضت لها معه لإ فأفاضت دمع العين وأنشدت هذين البيتين:

شوقي إليك على الزمان جديد والدمع قرح مقلتـي ويزيد

وإذا بكيت من ألم الـجـوى إن الفراق على المحب شديد

فلما فرغت من شعرها مسحت دموعها وطلعت القصر ودخلت الحريم وأفردت للجواري والسراري منازل ورتبت لهن الرواتب والجرايات وزعمت أنها تريد أن تجلس في مكان وحدها عاكفة على العبادة وصارت تصوم وتصلي حتى قالت الأمراء: إن هذا السلطان له ديانة عظيمة.

ثم إنها لم تدع عندها أحداً من الخدم غير طواشين صغيرين لأجل الخدمة وجلست في تخت الملك سنة وهي لم تسمع بسيدها خبراً ولم تقف له على أثر فقلقت من ذلك، فلما اشتد قلقها دعت بالوزراء والحجاب وامرتهم أن يحضروا لها المهندسين والبنائين وأن يبنوا لها تحت القصر ميداناً طوله فرسخ وعرضه فرسخ ففعلوا ما أمرتهم به في أسرع وقت فجاء الميدان على طبق مرادها، فلما تم ذلك الميدان نزلت فيه وضربت لها فيه قبة عظيمة وصفت فيه كراسي الأمراء وأمرت أن يمدوا سماطاً من سائر الأطعمة الفاخرة في ذلك الميدان ففعلوا ما أمرتهم به ثم أمرت أرباب الدولة أن يأكلوا ثم قالت للأمراء: أريد إذا هل الشهر الجديد أن تفعلوا هكذا وتنادوا في المدينة لا يفتح أحد دكانه بل يحضرون جميعاً ويأكلون من سماط الملك، وكل من خالف منهم يشنق على باب داره.

فلما هل الشهر الجديد فعلوا ما أمرتهم به واستمروا على هذه العادة إلى أن هل أول شهر من السنة الثانية فنزلت إلى الميدان ونادى المنادي يا معشر الناس كافة كل من فتح دكانه أو حاصله أو منزله شنق في الحال على باب دكانه بل يجب عليكم أن تحضروا جميعاً لتأكلوا من سماط الملك، فلما فرغت المناداة ووضع السماط جاءت الخلق أفواجاً أفواجاً، فأمرتهم بالجلوس على السماط ليأكلوا حتى يشبعوا من سائر الألوان فجلسوا يأكلون كما أمرتهم على كرسي المملكة تنظر إليهم فصار كل من جلس على السماط يقول في نفسه: إن الملك لا ينظر إلا إلي، وجلسوا يأكلون وصار الأمراء يقولون للناس كلوا ولا تستحوا فإن الملك يحب ذلك فأكلوا حتى شبعوا وانصرفوا داعين للملك وصار بعضهم يقول لبعض عمرنا ما رأينا سلطاناً يحب الفقراء، مثل هذا السلطان ودعوا له بطول البقاء وذهبت إلى قصرها. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والستين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة زمرد ذهبت إلى قصرها وهي فرحانة بما رتبته وقالت في نفسها: إن شاء الله تعالى بسبب ذلك أقع على خبر سيدي علي شار ولما هل الشهر الثاني فعلت ذلك الأمر على جري العادة ووضعوا السماط ونزلت زمرد وجلست على كرسيها وأمرت الناس أن يجلسوا ويأكلوا فبينما هي جالسة على رأس السماط والناس يجلسون عليه جماعة بعد جماعة وواحد بعد واحد إذ وقعت عينها على برسوم النصراني، الذي كان اشترى الستر من سيدها فعرفته فصاحت على بعض الجند وقالت له: هاتوا هذا الذي قدامه الصحن الأرز الحلو ولا تدعوه يأكل اللقمة التي في يده بل ارموها من يده فجاء أربعة من العساكر وسحبوه على وجهه بعد أن رموا اللقمة من يده وأوقفوه قدام زمرد فامتنعت الناس عن الأكل وقال بعضهم لبعض: والله إنه ظالم لأنه لم يأكل من طعام أمثاله فقال واحد: أنا قنعت بهذا الكشك الذي قدامي فقال الحشاش: الحمد لله الذي منعني من أن آكل من الصحن الأرز الحلو شيئاً لأني كنت أنتظر أن يستقر قدامه ويتهنى عليه ثم آكل معه فحصل له ما رأينا.

فقال الناس لبعضهم: اصبروا حتى ننظر ما يجري عليه فلما قدموه بين يدي الملكة زمرد، قالت له: ويلك يا أزرق العينين ما اسمك وما سبب قدومك إلى بلادنا فأنكر الملعون وكان متعمماً بعمامة بيضاء فقال: يا ملك اسمي على صنعتي حباك وجئت إلى المدينة من أجل التجارة فقالت زمرد: ائتوني بتخت زمل وقلم نحاس فجاؤوا بما طلبته في الحال فأخذت التخت الرمل والقلم وضربت تخت رمل وخطت بالقلم صورة مثل صورة قرد ثم بعد ذلك رفعت رأسها وتأملت برسوم ساعة زمانية وقالت له: يا كلب كيف تكذب على الملوك، أما أنت نصراني واسمك برسوم وقد أتيت إلى حاجة تفتش عليها فأصدقني الخبر وإلا وعزة الربوبية لأضربن عنقك فتلجلج النصراني. فقال الأمراء والحاضرون: إن هذا الملك يعرف ضرب الرمل سبحان من أعطاه ثم صاحت على النصراني وقالت له: أصدقني الخبر وإلا أهلكتك فقال النصراني: العفو يا ملك الزمان إنك صادق في ضرب الرمل فأنا نصراني. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والستين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن النصراني قال: العفو يا ملك الزمان إنك صادق في ضرب الرمل فأنا نصراني. فتعجب الحاضرون من الأمراء وغيرهم من إصابة الملك في ضرب الرمل وقالوا إن هذا الملك منجم ما في الدنيا مثله، ثم إن الملكة أمرت بأن يسلخ النصراني ويحشى جلده تبناً ويعلق على باب الميدان وأن يحفروا حفرة في خارج البلد ويحرق فيها لحمه وعظمه وترمى عليه الأوساخ والأقذار، فقالوا ك سمعاً وطاعة، وفعلوا ما أمرتهم به.

فلما نظر الخلق ما حل بالنصراني قالوا: جزاؤه ما حل به فما كان أشأمها لقمة عليه فقال واحد منهم: على البعيد الطلاق عمري ما بقيت آكل أرز حلو فقال الحشاش: الحمد لله الذي عافاني مما حل بهذا حيث حفظني من أكل ذلك الأرز، ثم خرج الناس جميعهم وقد حرموا الجلوس على الأرز الحلو في موضع ذلك النصراني ولما كان الشهر الثالث مدوا السماط على جري العادة وهم خائفون وقعدت الملكة زمرد على الكرسي ووقف العسكر على جري العادة وهم خائفون من سطوتها ودخلت الناس من أهل المدينة على العادة وداروا حول السماط إلى موضع الصحن.

فقال واحد منهم للآخر: يا حج خلف قال له: لبيك يا حج خالد قال: تجنب الصحن الأرز الحلو واحذر أن تأكل منه وإن أكلت منه تصبح مشنوقاً ثم إنهم جلسوا حول السماط للأكل فبينما هم يأكلون والملكة زمرد جالسة إذ حانت منها التفاتة إلى رجل يهرول من باب المدينة فتأملته فوجدته جوان الكردي اللص الذي قتل الجندي وسبب مجيئه أنه كان ترك أمه ومضى إلى رفقائه وقال لهم: إني كسبت البارحة طيباً وقتلت جندياً وأخذت فرسه وحصل لي في تلك الليلة خرج ملآن ذهباً وصبية قيمتها أكثر من الذهب الذي في الخرج ووضعت جميع ذلك في الغار عند والدتي ففرحوا بذلك وتوجهوا إلى الغار في النهار ودخل جوان الكردي قدامهم وهم خلفه وأراد أن يأتي لهم بما قال لهم فوجد المكان قفراً فسأل أمه عن حقيقة الأمر فأخبرته بجميع ما جرى فعض على كفيه ندماً وقال: والله لأدورن على هذه الفاجرة وآخذها من المكان الذي هي فيه ولو كانت في قشور الفستق وأشفي غليلي منها. وخرج يفتش عليها، ولم يزل دائراً في البلاد حتى وصل إلى مدينة الملكة زمردة.

فلما دخل المدينة لم يجد فيها احد، فسأل بعض النساء الناظرات من الشبابيك فأعلمنه أن أول كل شهر يمد السلطان سماطاً وتروح الناس وتأكل منه ودلوه على الميدان الذي فيه السماط فجاء وهو يهرول فلم يجد مكاناً خالياً يجلس فيه إلا عند الصحن المتقدم ذكره فقعد وصار الصحن قدامه، فمد يده إليه فصاحت عليه الناس وقالوا له: يا أخانا ما تريد أن تعمل قال: أريد أن آكل من هذا الصحن حتى أشبع، فقال له واحد: إن أكلت تصبح مشنوقاً. فقال له: اسكت ولا تنطق بهذا الكلام، ثم مد يده إلى الصحن وجره قدامه وكان الحشاش المتقدم ذكره جالساً في جنبه فلما رآه جر الصحن قدامه هرب من مكانه وطارت الحشيشة من رأسه وجلس بعيداً وقال أنا مالي حاجة بهذا الصحن إن الكردي مد يده إلى الصحن وهي في صورة رجل الغراب وغرف بها وأطلعها منه وهي مثل خف الجمل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والستين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جوان الكردي أطلع يده من الصحن وهي مثل خف الجمل ودور اللقمة في كفه حتى صارت مثل النارنجة الكبيرة، ثم رماها في فمه بسرعة فانحدرت في حلقه ولها فرقعة مثل الرعد وبان قعر الصحن من موضعها، فقال له من بجانبه: الحمد لله الذي لم يجعلني طعاماً بين يديك لأنك خسفت الصحن بلقمة واحدة فقال الحشاش: دعوه يأكل فإني تخيلت فيه صورة المشنوق. ثم التفت إليه وقال له: لا هنأك الله، فمد يده إلى اللقمة الثانية وأراد أن يدورها في يده مثل اللقمة الأولى وإذا بالملكة صاحت على بعض الجند وقالت لهم: هاتوا ذلك الرجل بسرعة ولا تدعوه يأكل اللقمة التي في يده فتجارت عليه العسكر وهو مكب على الصحن وقبضوا عليه وأخذوه قدام الملكة زمرد فشمتت الناس فيه وقالوا لبعضهم: إنه يستاهل لأننا نصحناه فلم ينتصح وهذا المكان مشؤوم على كل من يأكل منه ثم إن الملكة زمرد قالت له: ما اسمك وما صنعتك وما سبب مجيئك مدينتنا قال: يا مولانا السلطان اسمي عثمان وصنعتي خولي بستان وسبب مجيئي إلى هذه المدينة أنني دائراً أفتش على شيء ضاع مني.

فقالت الملكة: علي بتخت الرمل فأحضروه بين يديها، فأخذت القلم وضربت تخت رمل ثم تأملت فيه ساعة وبعد ذلك رفعت رأسها وقالت له: ويلك يا خبيث كيف تكذب على الملوك هذا الرمل يخبرني أن اسمك جوان الكردي وصنعتك أنك لص تأخذ أموال الناس بالباطل وتقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، ثم صاحت عليه وقالت: يا خنزير أصدقني بخبرك وإلا قطعت رأسك فلما سمع كلامها اصفر لونه واصطكت أسنانه وظن أنه إن نطق بالحق ينجو فقال: صدقت أيها الملك ولكنني أتوب على يديك من الآن وأرجع إلى الله تعالى.
فقالت له الملكة: لا يحل لي أن أترك آفة في طريق المسلمين، ثم قالت لبعض أتباعها: خذوه واسلخوا جلده وافعلوا به مثل ما فعلتم بنظيره في الشهر الماضي وفعلوا ما امرتهم به ولما رأى الحشاش العسكر حين قبضوا على ذلك الرجل أدار ظهره إلى ذلك الصحن الأرز وقال: إن استقبالك بوجهي حرام ولما فرغوا من الأكل تفرقوا وذهبوا إلى أماكنهم وطلعت الملكة إلى قصرها وأذنت للماليك بالإنصراف، ولما هل الشهر الرابع نزلوا إلى الميدان على جري العادة وأحضروا الطعام وجلس الناس ينتظرون الإذن وإذا بالملكة قد أقبلت وجلست على الكرسي وهي تنظر إليهم فوجدت موضع صحن الأرز خالياً وهو يسع أربعة أنفس فتعجبت من ذلك فبينما هي تجول بنظرها إذ حانت منها التفاتة فنظرت إنساناً داخلاً من باب الميدان يهرول حتى وقف على السماط فلم يجد مكاناً خالياً إلا عند الصحن فتأملته فوجدته الملعون النصراني الذي سمى نفسه رشيد الدين فقالت في نفسها: ما أبرك هذا الطعام الذي وقع في حبائله هذا الكافر وكان لمجيئه سبب عجيب وهو أنه لما رجع من سفره. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والستين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملعون الذي سمى نفسه رشيد الدين لما رجع من سفره أخبره أهل بيته أن زمرد قد فقدت ومعها خرج مال فلما سمع ذلك الخبر شق أثوابه ولطم على وجهه ونتف لحيته وأرسل أخاه برسوماً يفتش في البلاد. فما أبطأ عليه خبره خرج هو بنفسه ليفتش على أخيه وعلى زمرد في البلاد فرمته المقادير إلى مدينة زمرد ودخل تلك المدينة في أول يوم من الشهر. فلما مشى في شوارعها وجدها خالية ودكاكينها مقفولة ونظر النساء مطلات من النوافذ، فسأل بعضهن عن هذا الحال فقلن له: إن الملك يعمل سماطاً لجميع الناس في أول كل شهر وتأكل منه الخلق جميعاً وما يقدر أحد أن يجلس في بيته ولا في دكانه ودلوه على الميدان فلما دخل الميدان وجد الناس مزدحمين على الطعام ولم يجد موضعاً إلا الموضع الذي فيه الصحن الأرز المعهود فجلس فيه ومد يده ليأكل فصاحت الملكة على بعض العسكر وقالت لهم: هاتوا الذي قعد على الصحن الأرز فعرفوه بالعادة وقبضوا عليه وأوقفوه قدام الملكة زمرد فقالت له: ويلك ما اسمك وما صنعتك وما سبب مجيئك إلى مدينتنا فقال: يا ملك الزمان اسمي رستم ولا صنعة لي لأنني فقير ودرويش. فقالت لجماعتها هاتوا تخت الرمل والقلم النحاس فأتوها بما طلبته على العادة فأخذت القلم وخطت به تخت رمل ومكثت تتأمل فيه ساعة ثم رفعت رأسها إليه وقالت: يا كلب كيف تكذب على الملوك أنت اسمك رشيد الدين النصراني وصنعتك أنك تنصب الحيل لجواري المسلمين وتأخذهن وأنت مسلم في الظاهر ونصراني في الباطن فانطق الحق وإن لم تنطق بالحق فإني أضرب عنقك فتلجلج في كلامه ثم قال: صدقت يا ملك الزمان فأمرت به أن يمد على كل رجل مائة سوط وعلى جسده ألف سوط وبعد ذلك يسلخ جلده ويحشى ساساً ثم تحفر له حفرة في خارج المدينة ويحرق وبعد ذلك يضعون عليه الأوساخ والأقذار ففعلوا ما أمرتهم به ثم أذنت للناس بالأكل فأكلوا ولما فرغ الناس من الأكل وانصرفوا إلى حال سبيلهم طلعت الملكة زمرد إلى قصرها وقالت: الحمد لله الذي أراحني من الذين آذوني ثم إنها شكرت ناظر السموات والأرض وأنشدت هذه الأبيات:

تحكموا فاستطالوا في تحكمهـم وبعد حين كان الحكم لم يكـن

لو أنصفوا أنصفوا لكن بغوا فأ تى عليه الدهر بالآفات والمحن

فأصبحوا ولسان حالهم ينشدهـم هذا بذاك ولا عتب على الزمن

ولما فرغت من شعرها خطر ببالها سيدها علي شار فبكت بالدموع الغزار وبعد ذلك رجعت إلى عقلها وقالت في نفسها: لعل الله الذي مكنني من أعدائي يمن علي برجوع أحبائي فاستغفرت الله عز وجل. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والستين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملكة استغفرت الله عز وجل وقالت لعل الله يجمع شملي بحبيبي علي شار قريباً إنه على ما يشاء قدير وبعباده لطيف خبير ثم حمدت الله ووالت الإستغفار وسلمت لمواقع الأقدار وأيقنت أنه لا بد لكل أول من آخر وأنشدت قول الشاعر:

كن حليم إذا ابتليت بغيظ وصبوراً إذا أتتك مصيبة

فالليالي من الزمان حبالى مثقلات يلدن كل عجيبة

وقول الآخر:

اصبر ففي الصبر خير لو علمت به لطبت نفساً ولم تجزع مـن الألـم

واعلم بأنك لو لم تصطبر كـرمـاً صبرت رغماً على ما خط بالقلـم

فلما فرغت من شعرها مكثت بعد ذلك شهراً كاملاً وهي بالنهار تحكم بين الناس وتنهي وبالليل تبكي وتنتحب على فراق سيدها علي شار ولما هل الشهر الجديد أمرت بمد السماط في الميدان على جري العادة وجلست فوق الناس وصاروا ينتظرون الإذن في الأكل وكان موضع الصحن الأرز خالياً وجلست على رأس السماط وجعلت عينها على باب الميدان لتنظر كل من يدخل وصارت تقول في سرها: من رد يوسف على يعقوب وكشف البلاء عن أيوب أمنن علي برد سيدي علي شار بقدرتك وعظمتك إنك على كل شيء قدير يا رب العالمين فلم يتم دعاؤها إلا وشخص داخل من باب الميدان كأن قوامه غصن بان إلا أنه نحيل البدن يلوح عليه الإصفرار وهو أحسن ما يكون من الشباب كامل العقل والآداب فلما دخل لم يجد موضعاً خالياً إلا الموضع الذي عند الصحن الأرز فجلس فيه ولما رأته زمرد خفق قلبها فحققت النظر فيه فتبين أنه سيدها علي شار فأرادت أن تصرخ من الفرح فثبتت نفسها وخشيت من الفضيحة بين الناس ولكن تقلقلت أحشاؤها واضطرب قلبه فكتمت ما بها وكان السبب في مجيء علي شار لما انه رقد على المصطبة ونزلت زمرد وأخذها جوان الكردي استيقظ بعد ذلك فوجد نفسه مكشوف الرأس فعرف أن إنساناً تعدى عليه وأخذ عمامته وهو نائم فقال الكلمة التي لا يخجل قائلها وهي إنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم إنه رجع إلى العجوز التي كانت أخبرته بمكان زمرد وطرق عليها الباب فخرجت إليه فبكى بين يديها حتى وقع مغشياً عليه فلما أفاق أخبرها ما حصل له فلامته وعنفته هلى ما وقع منه وقالت له: إن مصيبتك وداهيتك من نفسك ولا زالت تلومه حتى طفح الدم من منخريه ووقع مغشياً عليه فلما أفاق من غشيته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والستين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي شار لما افاق من غشيته رأى العجوز تبكي من أجله وتفيض دمع العين فتضجر وأنشد هذين البيتين:

ما أمر الفراق للأحبـاب وألذ الوصال للعـشـاق

جمع الله شمل كل محـب ورعاني لأنني في اشتياق

فحزنت عليه العجوز وقالت: يا ولدي هذا الذي أنت فيه من الكآبة والحزن لا يرد عليك محبوبتك فقم وشد حيلك وفتش عليها في البلاد لعلك أن تقع على خبرها.

ولم تزل تجلده وتقويه حتى نشطته وأدخلته الحمام وسقته الشراب وأطعمته الدجاج وصارت كل يوم تفعل معه كذلك مدة شهر حتى نقوى وسافر، ولم يزل مسافراً إلى أن وصل إلى مدينة زمرد ودخل الميدان وجلس على الطعام ومد يده ليأكل فحزن عليه الناس وقالوا له: يا شاب لا تأكل من هذا الصحن لأن من أكل منه يحصل له ضرر، فقال ك دعوني آكل منه ويفعلون بي ما يريدون لعلي أستريح من هذه الحياة المتعبة، ثم أكل أول لقمة وأرادت زمرد أن تحضره بين يديها فخطر ببالها أنه جائع فقالت في نفسها: المناسب اني أدعه يأكل حتى يشبع فصار يأكل والخلق باهتون ينتظرون الذي يجري له.

فلما أكل وشبع قالت لبعض الطواشية: امضوا إلى ذلك الشاب الذي يأكل من الأرز وهاتوه برفق وقولوا له كلم الملك لسؤال لطيف وجواب، فقالوا: سمعاً وطاعة، ثم ذهبوا إليه إليه حتى وقفوا قباله وقالوا له: يا سيدي تفضل كلم الملك وأنت منشرح الصدر فقال: سمعاً وطاعة، ثم مضى الطواشية. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة والستين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي شار قال: سمعاً وطاعة، ثم ذهب مع الطواشية فقال الخلق لبعضهم: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يا ترى لم الذي يفعله به الملك؟ فقال بعضهم: لا يفعل به إلا الخير لأنه لو كان يريد ضره ما كان تركه حتى يشبع، فلما وقف قدام زمرد سلم عليها وقبل الأرض بين يديها فردت عليه السلام وقابلته بالإكرام وقالت له: ما اسمك وما صنعتك؟ وما سبب مجيئك إلى هذه المدينة؟ فقال لها: اسمي علي شار وأنا من أولاد التجار وبلدي خراسان وسبب مجيئي إلى هذه المدينة التفتيش على جارية ضاعت مني وكانت عندي أعز من سمعي وبصري فروحي متعلقة من حين فقدتها وهذه قصتي، ثم بكي حتى غشي عليه فأمرت أن يرشوا على وجهه ماء الورد حتى أفاق فلما أفاق من غشيته قالت: علي بتخت الرمل والقلم النحاس فجاؤوا به فأخذت القلم وضربت تخت رمل وتأملت فيه ساعة من الزمان ثم بعد ذلك قال: صدقت في كلامك والله يجمعك بها قريباً فلا تقلق.

ثم أمرت الحاجب أن يمضي به إلى الحمام ويلبسه بدلة حسنة من ثياب الملوك ويركبه فرساً من خواً خيل الملك ويمضي به بعد ذلك إلى القصر في آخر النهار، فقال الحاجب: سمعاً وطاعة، ثم أخذه من قدامها وتوجه به فقال الناس لبعضهم: ما بال السلطان لاطف الغلام هذه الملاطفة، وقال بعضهم: أما قلت لكم لا يسيئه فإن شكله حسن ومن حين صبر عليه لما شبع عرفت ذلك وصار كل واحد منهم يقول مقالة، ثم تفرق الناس، وما صدقت زمرد أن الليل أقبل حتى تختلي بمحبوب قلبها.

فلما اتى الليل دخلت محل نومها وأظهرت أنه غلب عليها النوم ولم يكن لها عادة بأن ينام عندها أحد غير خادمين برسم الخدمة فلما استقرت في ذلك المحل أرسلت إلى محبوبها علي شار وقد جلست على السرير والشمع يضيء فوق رأسها وتحت رجليها والتعاليق الذهب مشرقة في المحل، فلما سمع الناس بإرساله إليه تعجبوا من ذلك وصار كل واحد منهم يظن ظناً ويقول مقالة، وقال بعضهم: إن الملك على كل حال تعلق بهذا الغلام وفي غد يجعله قائد عسكر.

فلما دخلوا به عليه قبل الأرض بين يديها ودعا لها فقالت في نفسها: لا بد أن أمزح معه ولا أعلمه بنفسي، ثم قالت: يا علي هل ذهبت إلى الحمام قال: نعم يا مولاي قالت: قم كل من هذا الدجاج واللحم واشرب من هذا السكر الشراب فإنك تعبان وبعد ذلك تعال هنا فقال: سمعاً وطاعة، ثم فعل ما أمرته به.

ولما فرغ من الأكل والشرب قالت له اطلع عندي على السرير واكبسني، فشرع يكبس رجليها وسيقانها فوجدها أنعم من الحرير، فقالت له: اطلع بالتكبيس إلى فوق فقال: العفو يا مولاي من عند الركبة ما أتعدى، قالت: أتخالفني فتكون ليلة مشؤومة عليك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والستين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن زمرد قالت لسيدها علي شار أتخالفني فتكون ليلة مشؤومة عليك بل ينبغي لك أن تطاوعني وأنا أعملك معشوقي وأجعلك أميراً من أمرائي، فقال علي شار: يا ملك الزمان ما الذي أطيعك فيه؟ قالت: حل لباسك ونم على وجهك فقال: هذا شيء عمري ما فعلته وإن قهرتني على ذلك فإني أخاصمك فيه عند الله يوم القيامة، فخذ كل شيء أعطيتني إياه ودعني أروح من مدينتك، ثم بكى وانتحب.

فقالت: حل لباسك ونم على وجهك وإلا ضربت عنقك ففعل، فطلعت على ظهره فوجد شيئاً أنعم من الحرير وألين من الزبد فقال في نفسه: إن هذا الملك خير من جميع النساء، ثم إنها صبرت قليلاً وهي على ظهره وبعد ذلك انقلبت على الأرض فقال علي شار الحمد لله كأن ذكره لم ينتصب، فقالت: إن من عادة ذكري أن لا ينتصب إلا إذا عركوه بأيديهم فقم واعركه بيدك حتى ينتصب وإلا قتلتك، ثم رقدت على ظهرها وأخذت بيده ووضعتها على فرجها فوجد فرجاً أنعم من الحرير وهو أبيض مربرب يحكي في السخونة حرارة الحمام وقلب صب أضناه الغرام فقال علي شار في نفسه إن الملك له كس فهذا من العجب العجاب.

وأدركته الشهوة فصار ذكره في غاية الإنتصاب، فلما رأت منه ذلك ضحكت وقهقهت وقالت له: يا سيدي قد حصل هذا كله وما تعرفني؟ فقال ومن أنت أيها الملك؟ قال: أنا جاريتك زمرد، فلما علم ذلك قبلها وعانقها وانقض عليها مثل الأسد على الشاة وتحقق أنها جاريته بلا اشتباه فأغمد قضيبه في جرابها ولم يزل بواباً لبابها وإماماً لمحرابها وهي معه في ركوع وسجود وقيام وقعود، إلا أنها صارت تتبع التسبيحات بغنج في ضمنه حركات حتى سمع الطواشية فجاءوا ونظروا من خلف الأستار فوجدوا الملك راقداً وفوقه علي شار وهو يرصع ويزهر وهي تشخر وتغنج فقال الطواشية: إن هذا الغنج ما هو غنج رجل لعل هذا الملك امرأة، ثم كتموا أمرهم ولم يظهروه على أحد. فلما أصبحت زمرد أرسلت إلى كامل العسكر وأرباب الدولة وأحضرتهم وقالت لهم: أنا أريد أن أسافر إلى بلد هذا الرجل فاختاروا نائباً يحكم بينكم حتى أحضر عندكم فأجابوا زمرد بالسمع والطاعة، ثم شرعت في تجهيز آلة السفر من زاد وأموال وأرزاق وتحف وبغال وسافرت، ولم تزل مسافرة إلى أن وصلت إلى بلد علي شار ودخل منزله وأعطى وتصدق ووهب ورزق منها الأولاد وعاشا في أحسن المسرات إلى أن أتاهم هازم اللذات ومفرق الجماعات. فسبحان الباقي بلا زوال والحمد لله على كل حال.