Index
حكاية ورد خان بن الملك جليعاد
Wird khan bin Jaliad

ومما يحكى أيضاً أنه كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان ملكٌ من بلاد الهند وكان ملكاً عظيماً طويل القامة حسن الصورة حسن الخلق كريم الطبائع محسناً للفقراء محباً للرعية ولجميع أهل دولته وكان اسمه جليعاد وكان تحت يده في مملكته اثنان وسبعون ملكاً ولبلاده ثلثمائة وخمسون قاضياً وكان له سبعون وزيراً وقد جعل على كل عشرة من عسكره رئيساً وكان أكبر وزرائه شخصاً يقال له شماس وكان عمره مائتي وعشرون سنة وكان حسن الخلق والطباع لطيفاً في كلامه ليناً في جوابه حاذقاً في جميع أموره حكيماً مدبراً رئيساً مع كبر سنه عارفاً بكل حكمةٍ وأدبٍ وكان الملك يحبه محبةً عظيمةً ويميل إليه لمعرفته بالفصاحة والبلاغة وأحوال السياسة ولما أعطاه الله من الرحمة وحفظ النجاح للرعية.

وكان ذلك الملك عادلاً في مملكته حافظاً لرعيته مواصلاً كبيرهم وصغيرهم بالإحسان وما يليق بهم من الرعاية والعطايا والأمان والطمأنينة مخففاً للخراج عن كامل الرعية وكان محباً لهم كبيراً وصغيراً ومعاملاً لهم بالإحسان إليهم والشفقة عليهم وأتى في حسن بينهم بما لم يأت به أحدٌ قبله ومع هذا كله لم يرزقه الله تعالى بولدٍ فشق ذلك عليه وعلى أهل مملكته فاتفق أن الملك كان مضطجعاً في ليلةٍ من الليالي وهو مشغول البال والفكر في عاقبة أمر مملكته، ثم غلب عليه النوم فرأى في منامه كأنه يصب ماء في أصل شجرة.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التسعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك رأى في منامه كأنه يصب ماء في أصل شجرة وحول تلك الشجرة أشجار كثيرة وإذا بنارٍ قد خرجت من تلك الشجر وأحرقت جميع ما كان حولها من الأشجار، فعند ذلك انتبه الملك من منامه فزعاً مرعوباً واستدعى أحد غلمانه وقال له: اذهب بسرعة وأتني بشماس الوزير عاجلاً فذهب الغلام إلى الوزير شماس وقال له: إن الملك يدعوك في هذه الساعة لأنه انتبه من نومه مرعوباً فأرسلني إليك لتحضر عنده عاجلاً فلما سمع الوزير شماس كلام الغلام قام من وقته وساعته وتوجه إلى الملك ودخل عليه فرآه قاعداً على فراشه فسجد بين يديه داعياً له بدوام العز والنعم وقال له: لا أحزنك الله أيها الملك ما الذي أقلقك في هذه الليلة وما سبب طلبك إياي بسرعةٍ؟ فأذن الملك بالجلوس فجلس وصار الملك يقص عليه ما رأى قائلاً: إني رأيت في ليلتي هذه مناماً هالني وهو كأني أصب ماء في أصل شجرة وحول تلك الشجرة أشجار كثيرة فبينما أنا في هذه الحالة وإذا بنارٍ خرجت من أصل تلك الشجرة وأحرقت جميع ما حولها الأشجار ففزعت من ذلك وأخذني الرعب فانتبهت عند ذلك وأرسلت دعوتك لكثرة معرفتك ولما أعلمه من اتساع علمك وغزارة فهمك فأطرق الوزير شماس رأسه ساعةً ثم تبسم فقال له الملك: ماذا رأيت يا شماس أصدقني الخبر ولا تخف عني شيئاً؟ فأجابه الوزير شماس وقال له: أيها الملك إن الله تعالى خولك وأقر عينك وأمر هذه الرؤيا يؤول إلى كل خير وهو أن الله تعالى يرزقك ولداً ذكراً يكون وارثاً للملك عنك من بعد طول عمرك غير أنه يكون فيه شيء لا أحب تفسيره في هذا الوقت لأنه غير موافق لتفسيره ففرح الملك بذلك فرحاً عظيماً وزاد سروره وذهب عنه فزعه وطابت نفسه وقال: إن كان الملك كذلك من حسن تأويل المنام فكمل لي تأويله إذا جاء الوقت الموافق لكمال تأويله فالذي لا ينبغي تأويله الآن ينبغي أن تؤوله لي إذا آن أوانه لأجل أن يكمل فرحي لأني لا أبتغي بذلك غير رضا الله سبحانه وتعالى. فلما رأى شماس من الملك أنه صمم على تمام تفسيره احتج له بحجة دافع بها عن نفسه فعند ذلك دعا الملك بالمنجمين وجميع المعبرين للأحلام الذين في مملكته فحضروا جميعاً بين يديه وقص عليهم ذلك المنام وقال لهم أريد منكم أن تخبروني بصحة تفسيره فتقدم واحداً منهم وأخذ إذناً من الملك بالكلام فلما أذن له قال: اعلم أيها الملك أن شماس وزيرك ليس بعاجزٍ عن تفسير ذلك وإنما هو احتشم منك وسكن روعك ولم يظهر لك جميع التأويل بالكلية ولكن إذا أذنت لي بالكلام تكلمت فقال له الملك: تكلم أيها المفسر بلا احتشام وأصدق في كلامك فقال المفسر: أعلم أيها الملك أنه يظهر منك غلام يكون وارثاً للملك عنك بعد طول حياتك ولكنه لا يسير في الرغبة بسيرك بل يخالف رسومك ويجور على رعيتك ويصيبه ما أصاب الفأر مع السنور، فاستعاذ الملك بالله تعالى وقال: وما حكاية السنور والفأر؟ فقال المفسر: أطال الله عمر الملك أن السنور هو القط سرح سرحة من الليالي إلى شيءٍ يفترسه في بعض الغيطان فما وجد شيئاً وضعف من شدة البرد والمطر اللذين حصلا في تلك الليلة فأخذ يحتال لنفسه بشيءٍ فبينما هو دائر على تلك الحالة إذ رأى وكراً في أسفل شجرة فدنا منه وصار يشمشم ويدندن حتى أحس أن داخل الوكر فأراً فحوله وهم بالدخول عليه لكي يأخذه فلما أحس به الفأر أعطاه قفاً وصار يزحف على يديه ورجليه لكي يسد باب الوكر عليه فعند ذلك صار السنور يصوت صوتاً ضعيفاً ويقول: لم تفعل ذلك يا أخي وأنا ملتجيءٌ إليك لتفعل معي رحمة بأن تقربي في وكرك هذه الليلة لأني ضعيف الحال من كبر سني وذهاب قوتي ولست أقدر على الحركة وقد توغلت في هذا الغيط هذه الليلة وكم دعوت بالموت على نفسي لكي أستريح وها أنا على بابك طريح من البرد والمطر وأسألك بالله من صدقتك أن تأخذ بيدي وتدخلني عندك وتأويني في دهليز وكرك لأني غريبٌ ومسكينٌ وقد قيل: من أوى بمنزله غريباً مسكيناً كان مأواه الجنة يوم الدين فأنت يا أخي حقيق بأن تكسب أجري وتأذن لي في أن أبيت عندك هذه الليلة إلى الصباح ثم أروح إلى حال سبيلي.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة والتسعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن السنور قال للفأر: ائذن لي أن أبيت عندك هذه الليلة ثم أروح إلى حال سبيلي، فلما سمع الفأر كلام السنور قال له: كيف تدخل وكري وأنت عدو لي بالطبع ومعاشك من لحمي وأخاف أن تغدر بي لأن ذلك من شيمتك لأنه لا عهد لك وقد قيل: لا ينبغي الأمان للرجل الزاني على المرأة الحسناء ولا الفقير العائل على المال وكالنار على الحطب وليس بواجب علي أن استأمنك على نفسي وقد قيل: عداوة الطبع لا ضعف صاحبها دنت أقوى، فأجاب السنور قائلاً بأحسن صوت وأسوأ حال: إن الذي قلته من المواعظ حق ولست أنكر عليك ولكن أسألك الصفح عما مضى من العداوة الطبيعية التي بيني وبينك لأنه قد قبل من صفح عن مخلوق مثله صفح خالقه عنه وقد كنت قبل ذلك عدواً لك وها أنا اليوم طالب صداقتك وقد قيل: إذا أردت أن يكون عدوك لك صديقاً فافعل معه خيراً، وأنا يا أخي أعطيك عهد الله وميثاقه إني لا أضربك أبداً ومع هذا ليس لي قدرةٌ على ذلك فثق بالله وأفعل خيراً وأقبل عهدي وميثاقي.

فقال الفأر: كيف أقبل عهد من تأسست العداوة بيني وبينه وعادته أن يغدر بي ولو كانت العداوة بيننا على شيءٍ من الأشياء غير الدم لهان علي ذلك، ولكنها عداوة طبيعية بين الأرواح وقد قيل: من استأمن عدوه على نفسه كان كمن أدخل يده في فم الأفعى فقال السنور وهو ممتلئ غيظاً قد ضاق صدري وضعفت نفسي وها أنا في النزاع وبعد قليل أموت على بابك ويبقى إثمي عليك لأنك قادرٌ على نجاتي مما أنا فيه وهذا آخر كلامي معك فحصل للفأر خوف من الله تعالى ونزلت في قلبه الرحمة وقال في نفسه: من أراد المعونة من الله تعالى على عدوه فليصنع معه رحمةً وخيراً وأنا متوكل على الله في هذا الأمر وأنقذ هذا السنور من الهلاك لأكسب أجره. فعند ذلك خرج الفأر إلى السنور وأدخله في وكره سحباً فأقام عنده إلى أن اشتد واستراح وتعافى قليلاً فصار يتأسف على ضعفه وذهاب قوته وقلة أصدقائه فصار الفأر يترفق به ويأخذ بخاطره ويتقرب منه ويسعى حوله وأما السنور فإنه زحف إلى الوكر حتى ملك المخرج خوفاً أن يخرج منه الفأر فلما أراد الخروج قرب السنور وعلى عادته فلما صار قريباً منه قبض عليه وأخذه بين أظافره وصار يعضه وينثره ويأخذه في فمه ويرفعه عن الأرض ويرميه ويجري وراءه وينهشه ويعذبه فعند ذلك استغاث الفأر وطلب الخلاص من الله وجعل يعاقب السنور ويقول: أين العهد الذي وعدتني به وأين أقسامك التي أقسمت بها؟ هذا جزائي منك وقد أدخلتك وكري واستأمنتك على نفسي ولكن صدق من قال: من أخذ عهداً من عدوه لا ينبغي لنفسه نجاة ومن قال: من أسلم نفسه لعدوه وكان مستوجباً لنفسه الهلاك ولكن توكلت على خالقي فهو الذي يخلصني منك.

فبينما هو على تلك الحالة مع السنور وهو وجد أن يهجم عليه وينهش فيه ويفترسه وإذا برجلٍ صيادٍ معه كلاب جارحة معودة بالصيد فمر بهم كلب على باب الوكر فسمع فيه معركةً كبيرةً فظن أن فيه ثعلباً يفترس شيئاً فاندفع الكلب منحدراً ليصطاده فصادف السنور فجذبه إليه فلما وقع السنور بين يدي الكلب التهى بنفسه وأطلق الفأر حياً ليس فيه جرح وأما هو فأنه خرج به الكلب الجارح بعد أن قطع عصبه ورماه ميتاً وصدق في حقهما قول من قال: من رحم رحم آجلاً ومن ظلم ظلم عاجلاً.

هذا ما جرى لهما أيها الملك فلذلك لا ينبغي لأحد أن ينقض عهد من استأمنه ومن غدر وخان يحصل له مثل ما حصل للسنور لأنه كما يدين الفتى يدان ومن يرجع إلى الخير ينل الثواب ولكن لا تحزن أيها الملك ولا يشق عليك ذلك لأن ولدك بعد ظلمه وعسفه ربما يعود إلى حسن سيرتك وأن هذا لعالم الذي هو وزيرك شماس أحب أن لا يكتم عليك شيءٌ فيما رمزه إليك وذلك رشد منه وقيل أن أكثر الناس خوفاً أوسعهم علماً وأغبطهم خيراً فأذعن الملك عند ذلك وأمر لهم بإكرام جزيل، ثم صرفهم وقام ودخل مكانه وصار يتفكر في عاقبة أمره.
فلما جن الليل أقضى إلى بعض نسائه وكانت أكرمهن عنده وأحبهن إليه فراقدها فلما تم لها نحو أربعة أشهر تحرك الجنين في بطنها ففرحت بذلك فرحاً شديداً وأعلمت الملك بذلك فقال: صدقت رؤياي والله المستعان ثم أنزلها أحسن المنازل وأكرمها غاية الإكرام وأعطاها أنعاماً جزيلاً وحولها بشيءٍ كثير وبعد ذلك دعا ببعض الغلمان وأرسله ليحضر الوزير شماس، فلما حضر حدثه الملك بما صار من حمل زوجته وهو فرحان قائلاً: قد صدقت رؤياي واتصل رجائي فلعل ذلك الحمل يكون ولداً ذكراً ويكون وارثاً لملكي فما تقول يا شماس في ذلك؟ فسكت شماس ولم ينطق بجوابٍ فقال له الملك: ما لي أراك لا تفرح فرحي ولا ترد لي جواباً يا ترى هل أنت كارهٌ لهذا الأمر يا شماس؟ فسجد عند ذلك الوزير شماس بين أيادي الملك وقال: أطال الله عمرك ما الذي ينفع المستظل بشجرةٍ إذا كانت النار تخرج منها وما لذة شارب الخمر الصافي إذا حصل له بها الشرق؟ وما فائدة الناهل من الماء العذب البارد إذا غرق فيه وإنما أنا عبد الله ذلك أيها الملك ولكن قد قيل ثلاثة أشياء لا ينبغي للعاقل أن يتكلم في شأنها إلا إذا تمت للمسافر حتى يرجع من سفره والذي في الحرب حتى يقهر عدوه والمرأة الحامل حتى تضع حملها.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والتسعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير شماساً لما قال للملك ثلاثة أشياءٍ لا ينبغي للعاقل أن يتكلم في شأنها إلا إذا تمت قال له بعد ذلك فأعلم أيها الملك أن المتكلم في شأن شيءٍ لم يتم مثل الناسك المدفون على رأسه فقال له الملك: وكيف حكاية الناسك وما جرى له؟ فقال له: أيها الملك أنه كان إنسان ناسك عند شريف من أشراف بعض المدن وكان للناسك جراية في كل يوم من رزق ذلك الشريف وهي ثلاثة أرغفة مع قليل من السمن والعسل وكان السمن في ذلك البلد غالياً وكان الناسك يجمع الذي يجيء إليه في جرةٍ عنده حتى ملأها وعلقها فوق رأسه خوفاً واحتراساً، فبينما هو ذات ليلةٍ من الليالي جالس على فراشه وعصاه في يده إذ عرض له فكر في أمر السمن وغلائه، فقال في نفسه: ينبغي أن أبيع هذا السمن الذي عندي جميعه واشتري بثمنه نعجة وأشارك عليها أحداً من الفلاحين فأنها في أول عام تلد ذكراً وأنثى وثاني عام تلد أنثى وذكراً ولا تزال هذه الغنم تتوالد ذكوراً وإناثاً حتى تصير شيئاً كثيراً وأقسم حصتي بعد ذلك فيها ما شئت واشتري الأرض الفلانية وأنشيء فيها غيطاً وأبني فيها قصراً عظيماً وأقتني ثياباً وملبوساً واشتري عبيداً وجواري وأتزوج بنت التاجر الفلاني وأعمل عرساً ما صار مثله قط وأذبح الذبائح وأعمل الأطعمة الفاخرة والحلويات والملبوسات وغيرها وأجمع فيها الملاعب والفنون وآلات السماع وأجهز الأزهار والمشمومات وأصناف الرياحين وأدعو الأغنياء والفقراء والعلماء وأرباب الدولة وكل من طلب شيئاً أحضرته إليه وأجهز أنواع المآكل والمشارب وأطلق منادي ينادي: من يطلب شيئاً يناله وبعد ذلك أدخل على عروسي بعد جلائها وأتمتع بحسنها وجمالها وآكل وأشرب وأطرب وأقول لنفسي قد بلغت مناك وأستريح من النسك والعبادة وبعد ذلك تحمل زوجتي وتلد غلاماً ذكراً أفرح به وأعمل له أولاً ثم أربيه في الدلال وأعلمه الحكمة والأدب والحساب وأشهر اسمه بين الناس وأفتخر به عند أرباب المجالس وآمره بالمعروف فلا يخالفني وأنهاه عن الفاحشة والمنكر وأوصيه بالتقوى وعمل الخير وأعطيه العطايا الحسنة السنية فإن رأيته لزم الطاعة زدته عطايا صالحة وإن رأيته مال إلى المعصية أنزل عليه بهذه العصا ورفعها ليضرب بها ولده فأصابت جرة السمن التي فوق رأسه فكسرتها فعند ذلك نزلت شقافتها عليه وساح السمن على رأسه وعلى ثيابه وعلى لحيته وصار عبرةً فلأجل ذلك أيها الملك لا ينبغي للإنسان أن يتكلم على شيءٍ قبل أن يصير.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والتسعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قال للملك لا ينبغي للإنسان أن يتكلم على شيءٍ قبل أن يصير فقال له الملك: لقد صدقت فيما قلت ونعم الوزير أنت بالصدق نطقت وبالخير أشرت ولقد صارت رتبتك عندي على ما تحب ولم تزل مقبولاً فسجد الوزير شماس لله وللملك ودعا له بدوام النعم وقال: أدام الله أيامك وأعلى شأنك وأعلم أنني لست أكتم عنك شيئاً لا في العلانية ورضاك رضاي وغضبك غضبي وليس لي فرح إلا بفرحك ولا يمكنني أن أبيت وأنت ساخطٌ علي لأن الله تعالى رزقني كل خير بإكرامك إياي فأسأل الله تعالى أن يحرسك بملائكته ويحسن ثوابك عند لقائه فابتهج الملك عند ذلك ثم قام الوزير شماس وانصرف من عند الملك.

ثم بعد مدة وضعت زوجة الملك غلاماً ذكراً فنهض المبشرون إلى الملك وبشروه بغلامه ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً وشكر الله شكراً جزيلاً وقال: الحمد لله الذي رزقني ولداً بعد اليأس وهو الشفوق الرؤوف على عباده ثم أن الملك كتب إلى سائر أهل مملكته ليعلمهم بالخير ويدعوهم إلى منزلة فحضر له الأمراء والرؤساء والعلماء وأرباب الدولة الذين تحت أمره، هذا ما كان من أمر الملك.

وأما ما كان من أمر ولده فأنه قد دقت البشائر والأفراح في سائر المملكة وأقبل أهلها إلى الحضور من سائر الأقطار وأقبل أهل العلوم والفلسفة والأدباء والحكماء ودخلوا جميعهم إلى الملك ووصل كل منهم إلى حد مقامه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والتسعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك لما دعى أهل المملكة دخل كلٌ منهم على قدر مقامه ثم أشار إلى الوزراء السبعة الكبار الذين رئسهم الوزير شماس أن يتكلم كل واحد منهم على قدر ما عنده من الحكمة في شأن ما هو بصدده فابتدأ رئيسهم الوزير شماس واستأذن في الكلام فأذن له فقال: الحمد لله الذي انشأنا من العدم إلى الوجود المنعم على عبادة الملوك أهل العدل والإنصاف تماماً أولاهم من الملك والعمل الصالح وبما أجراه على أيديهم لرعيتهم من الرزق وخصوصاً ملكنا الذي حيا به أموات بلادنا بما أسداه علينا من النعم ورزقنا من سلامته برخاء العيش والطمأنينة والعدل، فأي ملك يصنع بأهل مملكته ما صنع هذا الملك بنا من القيام بمصالحنا وأداء حقوقنا وإنصاف بعضنا من بعض وعدم الغفلة عنا ورد مظالمنا.

ومن فضل الله على الناس أن يكون ملكهم متعهداً لأمورهم وحافظاً لهم من عدوهم لأن العدو غاية قصده أن يقهر عدوه وأن يملكه في يده وكثير من الناس يقدمون أولادهم إلى الملوك خدماً فيصيرون عندهم بمنزلة العبيد لأجل أن يمنعوا عنهم الأعداء وأما نحن فلم يطأ بلادنا أعداء في زمن ملكنا لهذه النعمة الكبرى والسعادة العظمى التي لم يقدر الواصفون على وصفها وإنما هي فوق ذلك وأنت أيها الملك حقيق بأنك أهل لهذه النعمة العظيمة ونحن تحت كنفك وفي ظل جناحك أحسن الله ثوابك وأدام بقاءك لأننا كنا قبل ذلك نجد في الطلب من الله تعالى أن يمن علينا بالإجابة ويبقيك لنا ويعطيك ولداً صالحاً تقر به عيناك والله سبحانه وتعالى قد تقبل منا واستجاب دعاءنا.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والتسعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن شماساً قال للملك: أن الله تعالى قد تقبل منا واستجاب دعاءنا وأتانا الفرج القريب مثل ما آتى بعض السمك في غدير الماء فقال الملك: وما حكاية السمك؟ وكيف ذلك؟ فقال شماساً: إنما أيها الملك أنه كان في بعض الأماكن غدير ماءٍ وكان فيه بعض سمكات فعرض لذلك الغدير أنه قل ماؤه وصار ينضم بعضه إلى بعضٍ ولم يبق من الماء ما يسعها فكادت أن تهلك وقالت: ما عسى أن يكون من أمرنا وكيف نحتال ومن نستشيره في نجاتنا؟ فقامت سمكة منهن وكانت أكبرهن عقلاً وسناً، وقالت: ما لنا حيلة في خلاصنا إلا الطلب من الله ولكي نلتمس الرأي من السرطان فأنه أكبرنا فهلموا بنا لننظر ما يكون من رأيه، لأنه أكبر منا معرفةً بحقائق الكلام فاستحسنوا رأيها وجاؤا بأجمعهم إلى السرطان فوجدوه رابضاً في موضعه وليس عنده علمٌ ولا خبرٌ بما هو فيه فسلموا عليه وقالوا له: يا سيدنا أما يعنيك أمرنا وأنت حاكمنا ورئيسنا فأجابهم السرطان قائلاً: وعليكم السلام ما الذي جاء بكم وما تريدون؟ فقصوا عليه قصتهم وما دهاهم من أمر نقص الماء وأنه متى نشف حصل لهم الهلاك، ثم قالوا له: وقد جئتك منتظرين رأيك وما يكون لنا فيه النجاة لأنك كبيرنا وأعرف منا فعند ذلك أطرق رأسه ملياً ثم قال: لا شك أن عندكم نقص عقلي ليأسكم من رحمة الله تعالى وكفالته بأرزاق خلائقه جميعاً، ألم تعلموا أن الله سبحانه وتعالى يرزق عباده بغير حساب وقدر أرزاقهم قبل أن يخلق شيئاً من الأشياء وجعل لكل شخص عمراً محدوداً ورزقاً مقسوماً بقدرته الإلهية فكيف تحملوا هم شيءٍ هو في الغيب مسطور والرأي عندي أنه لا يكون أحسن من الطلب من الله تعالى فينبغي أن يكون كل واحد منا يصلح سريرته مع ربه في سره وعلانيته ويدعوا الله أن يخلصنا وينقذنا من الشدائد لأن الله تعالى لا يخيب رجاءً من توكل عليه ولا يرد طلب من توسل إليه فإذا أصلحنا أحوالنا استقامت أمورنا وحصل لنا كل خير ونعمة وإذا جاء الشتاء وغمرت أرضنا بدعاءٍ صالحاً فلا يهدم الخير الذي بناه فالرأي أن نصبر وننتظر ما يفعله الله بنا فإن كان يحصل لنا موت على العادة استرحنا وإن كان يحصل لنا ما يوجب الهرب هربنا ورحنا من أرضنا إلى حيث يريد الله فأجاب السمك جميعه من فم واحد: صدقت يا سيدنا جزاك الله عنا خيراً وتوجه كل واحدٍ منهن إلى موضعه فما مضى إلا أيامٍ قلائلٍ وأتاهم الله بمطرٍ شديدٍ حتى ملأ الغدير زيادة عما كان أولاً وهكذا نحن أيها الملك كنا يائسين من أن يكون لك ولد وحيث مّن الله علينا وعليك بهذا الولد المبارك فنسأل الله تعالى أن يجعله ولداً مباركاً وأن تقر به عينك ويحله خلفاً صالحاً ويرزقنا منه مثل ما رزقنا منك، فإن الله تعالى لا يخيب من قصده ولا ينبغي لأحدٍ أن يقطع رجاءه من رحمة الله تعالى ثم أن الوزير الثاني سلم على الملك فأجابه الملك قائلاً: وعليكم السلام.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة والتسعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير الثاني لما دخل على الملك وسلم عليه فرد الملك: وعليك السلام فقال ذلك الوزير: إن الملك لا يسمى ملكاً إلا إذا أعطى وعدل وحكم وأكرم وأحسن سيرته مع رعيته بإقامة الشرائع والسنن المألوفة بين الناس وأنصف بعضهم من بعض وحقن دماءهم وكف الأذى عنهم ويكون موصفاً بعدم الغفلة عن فقرائهم وإسعاف أعلاهم وأدناهم وإعطاءهم الحق الواجب لهم حتى يصيروا جميعاً داعين له ممتثلين لأمره لأنه لا شك أن الملك الذي بهذه الصفة محبوبٌ عند الرعية مكتسبٌ من الدنيا علاها ومن الآخرة شرفها ورضا خالقها ونحن معاشر العبيد معترفون لك أيها الملك بأن الجميع ما وصفناه عندكم كم قيل: خير الأمور أن يكون ملك الرعية عادلاً وحكيمها ماهراً وعالمها خبيراً عاملاً بعلمه ونحن الآن متنعمون بهذه السعادة وكنا قبل ذلك قد وقعنا في اليأس من حصول ولد لك يرث ملكك ولكن الله جل اسمه لم يخب رجاءك وقبل دعاءك لحسن ظنك به وتسليم أمرك إليه فنعم الرجاء رجاؤك وقد صار فيك ما صار للغراب والحية فقال الملك: وكيف ذلك حكاية الغراب والحية؟ فقال الوزير: أيها الملك أنه كان غراباً ساكناً في شجرة هو وزوجته في أرغد عيش إلى أن بلغا زمان تفريخهما، وكان زمن القيظ فخرجت حيةٌ من وكرها وقصدت تلك الشجرة وتعلقت بفرعها إلى أن صعدت إلى عيشٍ الغراب وربضت فيه ومكثت فيه مدة أيام الصيف وصار الغراب مطرود لا يجد له فرصةً ولا موضعاً يرقد فيه فلما انقضت أيام الحر ذهبت الحية إلى موضعها فقال الغراب لزوجته: نشكر الله تعالى الذي نجانا وخلصنا من هذه الآفة وما أحرمنا من الزاد في هذه السنة لأن الله تعالى لا يقطع رجاءنا فنشكره على ما منّ علينا من السلامة وصحة أبداننا وليس لنا إتكالٌ إلا عليه وإذا أراد الله وعشنا إلى العام المقبل عوض الله علينا نتاجنا.

فلما جاء وقت تفريخهما خرجت الحية من موضعها وقصدت الشجرة فبينما هي متعلقة ببعض أغصانها وهي قاصدة عش الغراب على العادة وإذا بحداة قد انقضت عليها وضربتها في رأسها فخدشتها فعند ذلك سقطت الحية على الأرض مغشياً عليها وطلع عليها النمل فأكلها وصار الغراب مع زوجته في سلامة وطمأنينة وفرخاً أولاداً كثيرة وشكر الله على سلامتهما، وعلى حصول الأولاد ونحن أيها الملك يجب علينا شكر الله على ما أنعم عليك وعلينا بهذا المولود المبارك السعيد بعد اليأس وقطع الرجاء أحسن الله ثوابك وعاقبة أمرك.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة التسعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير الثاني لما فرغ من كلامه ختمه بقوله: أحسن الله ثوابك وعاقبة أمرك ثم قام الوزير الثالث وقال: أبشر أيها الملك العادل بالخير العاجل والثواب الآجل لأن كل من تحبه أهل السماء والله تعالى قسم تلك المحبة وجعلها في قلوب أهل مملكتك فله الشكر والحمد منا ومنك لكي يزيد نعمته عليك وعلينا بك وأعلم أيها الملك أن الإنسان لا يستطيع شيئاً إلا بأمر الله تعالى وأنه هو المعطي وكل خير عند شخص إليه ينتهي قسم النعم على عبيده كما يحب فمنهم من أعطاه مواهب كثيرةً ومنهم من شغله بتحصيل القوت ومنهم من جعل رئيسا ومنهم من جعله زاهداً في الدنيا راغباً إليه لأنه هو الذي قال: أنا الضار النافع أشفي وأمرض وأغني وأفقر وأميت وأحيي وبيدي كل شيءٍ وإلى المصير فواجب على جميع الناس شكره وأنت أيها الملك من السعداء الأبرار كما قيل: إن أسعد الأبرار من جمع الله له بين أخرى الدنيا والآخرة ويقنع بما قسم الله له ويشكره على ما أقامه فيه ومن تعدى وطلب غير ما قدر الله له وعليه يشبه حمار الوحش والثعلب، قال الملك: ماذا حديثهما؟ قال الوزير: أعلم أيها الملك أن ثعلباً كان يخرج كل يومٍ من وطنه ويسعى على رزقه فبينما هو ذات يوم في بعض الجبال وإذا بالنهار قد انقضى وقصد الرجوع فاجتمع على ثعلب رآه ماشياً وصار كل منهما يحكي لصاحبه حكاية مع ما أفترسه، فقال أحدهما: أنني بالأمس وقعت في حمار وحش وكنت جائعاً وكان لي ثلاثة أيامٍ ما أكلت ففرحت بذلك وشكرت الله تعالى الذي سحره لي ثم رجعت إلى وطني ومضى علي ثلاثة أيامٍ ما أجد شيئاً آكله ومع ذلك أنا شبعان إلى الآن، فلما سمع الثعلب الحكاية حسده على شبعه، وقال في نفسه: لا بد لي من أكل قلب حمار الوحش فترك الأكل أيام حتى انهزل وأشرف على الموت وقصر شعبه واجتهاده وربض في وطنه. فبينما هو في وطنه ذات يومٍ من الأيام وإذا بصيادين ماشيين قاصدين الصيد فوقع لهما حمار وحش فأقاما النهار كله في طرد أثره، ثم أن بعضهما رماه بسهمٍ مشعبٍ فأصابه ودخل جوفه واتصل بقلبه فقتله مقابل وكر الثعلب المذكور فأدركه الصيادان فوجداه ميتاً فأخرجا السهم الذي أصابه في قلبه فلم يخرج إلا العود وبقي السهم مشبعاً في بطن حمار الوحش فلما كان المساء خرج الثعلب من وطنه وهو يتضجر من الضعف والجوع فرأى حمار الوحش على بابه طريحاً ففرح فرحاً شديداً حتى كاد أن يطير من الفرح وقال: الحمد لله الذي يسر لي شهوتي من غير تعب لأني كنت لا اؤمل أني أصيب حمار وحش ولا غيره ولعل الله أوقع هذا وساقه إلي في موضعه ثم وثب عليه وشق بطنه وأدخل رأسه وصار يجول بفمه في أمعائه إلى أن وجد القلب فالتقمه بفمه وابتلعه فلما صار داخل حلقه اشتبك شعب السهم في عظم رقبته ولم يقدر على إدخاله في بطنه ولا على إخراجه من حلقه وأيقن بالهلاك فلهذا أيها الملك ينبغي للإنسان أن يرضى بما قسمه الله له، ويشكر نعمه ولا يقطع رجاءه من مولاه وها أنت أيها الملك بحسن نيتك، وإسداء معروفك رزقك الله ولداً بعد اليأس فنسأل الله تعالى أن يرزقه عمراً طويلاً وسعادةٍ دائمةٍ ويجعله خلفاً مباركاً موفياً بعهدك من بعدك بعد طول عمرك ثم قام الوزير الرابع وقال: إن الملك إذا كان فهيماً عالماً بأبواب الحكمة.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة والتسعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير الرابع لما قام وقال: أن الملك إذا كان فهيماً عالماً بأبواب الحكمة والأحكام والسياسة مع صلاح النية والعدل في الرعية وإكرام من يجب إكرامه وتوقير من يجب توقيره والعفو عند المقدرة إلا فيما لا بد منه ورعاية الرؤساء والمرؤوسين والتخفيف عنهم والإنعام عليهم وستر عوراتهم والوفاء بعهدهم كان حقيقاً بالسعادة الدنيوية والآخروية فأن ذلك مما يعيذه منهم ويعينه على ثبات ملكه ونصرته على أعدائه وبلوغ مأموله مع زيادة نعمة الله عليه وتوفيقه لشكره والفوز بعنايته. إن الملك إذا كان بخلاف ذلك فأنه لم يزل في مصائب وبلايا هو وأهل مملكته لكون جوره على الغريب والقريب ويصير فيه ما صار لابن الملك السائح، فقال الملك: وكيف كان ذلك؟ فقال الوزير: أعلم أيها الملك أنه كان في بلاد العرب ملكٌ جائر في حكمه ظالمٌ غاشمٌ عاسفٌ مضيعٌ لرعاية رعيته ومن دخل في مملكته، فكان لا يدخل في مملكته أحدٌ إلا ويأخذ عما له منه أربعة أخماس ما له ويبقى له الخمس لا غير، فقدر الله أنه كان له ولد سعيد موفق فلما رأى أحوال الدنيا غير مستقيمة تركها وهام سائحاً عابداً الله تعالى من صغره ورفض الدنيا وما فيها وذهب في طاعة الله تعالى سارحاً في البراري والقفاز داخلاً المدن، ففي بعض الأيام دخل تلك المدينة.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والتسعين بعد الثمانمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير قال للملك: لما دخل ابن تلك المدينة، فلما وقف على المحافظين أخذوه وفتشوه فلم يروا معه سوى ثوبين أحدهما جديد والأخر عتيق فنزعوا منه الجديد وتركوا له العتيق بعد الإهانة والتحقير فصار يشكو ويقول: ويحكم أيها الظالمون أنا رجل فقير وسائح وما عسى أن ينفعكم هذا الثوب وإذا لم تعطوه لي ذهبت للملك وشكوتكم إليه، فأجابوه قائلين: أننا فعلنا ذلك بأمر الملك فما بدا لك أن تفعله فافعله. فصار السائح يمشي إلى أن وصل بلاد الملك وأراد الدخول فمنعه الحجاب فرجع وقال في نفسه: ما لي إلا أني أرصدة حتى يخرج وأشكو إليه حالي وما أصابني. فبينما هو على تلك الحالة ينتظر خروج الملك إذ سمع أحد الأجناد يخبر عنه، فأخذ يتقدم قليلاً قليلاً حتى وقف قبال الباب فما شعر إلا والملك خارج فتقدم السائح نحوه ودعا له بالنصر وأخبره بما وقع له من المحافظين وشكا إليه حاله وأخبره أنه من أهل الله رفض الدنيا وخرج طالباً رضا الله تعالى فصار سائحاً في الأرض وكل من وفد إليه من الناس أحسن إليه بما أمكنه وصار يدخل كل مدينةٍ وكل قريةٍ وهو على هذه الحالة ثم قال: فلما دخلت إلى هذه المدينة كان رجائي أن يفعل بي أهلها مثل ما يفعلوا بغيري من السائحين فعارضني أتباعك ونزعوا أحد أثوابي وأوجعوني ضرباً فانظر في شأني وخذ بيدي وخلص لي ثوبي وأنا لا أقيم بعد الآن في هذه المدينة ساعةً واحدةً.

فأجابه الملك الظالم قائلاً: من أشار عليك بدخول هذه المدينة وأنت غير عالم بما يفعل ملكها، فقال: بعد أن آخذ ثوبي أفعل بي مرادك، فلما سمع ذلك الملك الظالم من السائح هذا الكلام حصل عنده تغيير مزاج فقال: أيها الجاهل نزعنا عنك ثوبك لكي تذل وحيث وقع منك مثل هذا الصياح عندي فأنا أنزع نفسك منك، ثم أمر بسجنه، فلما دخل السجن جعل يندم على ما وقع منه من الجواب وعنف نفسه حيث لم يترك ذلك يفوز بروحه.

فلما كان نصف الليل قام وصلى صلاةً مطولةً وقال: يا الله إنك الحكيم العدل تعلم بحالي وما انطوى عليه أمري مع هذا الملك الجائر، وأنا عبدك المظلوم أسألك من فيض رحمتك أن تنقذني من يد هذا الملك الظالم وتحل به نقمتك لأنك لا تغفل عن ظلم كل ظالمٍ، فأن كنت تعلم أنه ظلمني فأحلل نقمتك عليه في هذه الليلة وأنزل به عذابك لأن حكمك عدل وأنت غياث كل ملهوفٍ يا من له القدرة والعظمة إلى آخر الدهر.

فلما سمع السجان دعاء هذا المسكين صار جميع ما فيه من الأعضاء مرعوباً، فبينما هو كذلك وإذا بنار قادت في القصر الذي فيه الملك فأحرقت جميع ما فيه حتى باب السجن ولم يخلص سوى السجان السائح، فانطلق السائح وسار هو والسجان ولم يزالا سائرين حتى وصلا إلى غير تلك المدينة، وأما مدينة الملك الظالم فأنها احترقت عن آخرها بسبب جور ملكها.

وأما نحن أيها الملك السعيد فما نمسي ونصبح إلا ونحن داعون لك وشاكرين الله تعالى على فضله بوجودك مطمئنين بعدلك وحسن سيرتك وكان عندنا غم كثير لعدم وجود ولد لك يرث ملكك خوفاً أن يصير علينا ملك غيرك من بعدك، والآن قد أنعم الله تعالى بكرمه علينا وأزال عنا الغم وأتانا بالسرور بوجود هذا الغلام المبارك، فنسأل الله تعالى أن يجعله خليفةً صالحةً ويرزقه العز والسعادة الباقية والخير الدائم، ثم قام الوزير الخامس وقال: تبارك الله العظيم.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التسعمائة بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير الخامس قال: تبارك الله العظيم مانح العطايا الصالحة والمواهب السنية، وبعد فإننا تحققنا أن الله ينعم على من يشكره ويحافظ على دينه وأنت أيها الملك السعيد الموصوف بهذه المناقب الجليلة والعدل والإنصاف بين رعيتك بما يرضي الله تعالى، فلأجل ذلك أعلى الله شأنك وأسعد أيامك ووهب لك هذه العطية الصالحة التي على هذا الولد السعيد بعد اليأس وصار لنا بذلك الفرح الدائم والسرور الذي لا ينقطع لأننا قبل ذلك كنا في همٍ شديدٍ وغمٍ زائد بسبب عدم وجود ولد لك وفي أفكار فيما أنت منطوٍ عليه من عدلك ورأفتك بنا وخوفاً أن يقضي الله عليك بالموت ولم يكن لك من يخلفك ويرث الملك من بعدك فيختلف رأينا ويقع بيننا الشقاق ويصير بيننا ما صار للغراب.

فقال الملك: وما حكاية الغراب؟ فأجابه الوزير قائلاً: أعلم أيها الملك السعيد أنه كان في بعض البراري وادٍ متسعٍ وكان به أنهارٌ وأشجارٌ وأثمارٌ وبه أطيارٌ تسبح الله الواحد القهار خالق الليل والنهار وكان من جملة الطيور غربان وكانوا في أطيب عيش وكان المقدم عليهم والحاكم بينهم غرابٌ رؤوف بهم شفوقٌ عليهم وكانوا معه في أمانٍ وطمأنينة. ومن حسن تصريفهم فيما بينهم لم يكن أحد من الطيور يقدر عليهم فاتفق أن مقدمهم توفي وجاءه الأمر المحتوم على سائر الخلق فحزنوا عليه حزناً شديداً ومن زيادة حزنهم إنه لم يكن فيهم أحد مثله يقوم مقامه فاجتمعوا جميعاً وائتمروا فيما بينهم على من يقوم عليهم بحيث يكون صالحاً فطائفةً منهم اختارت غراباً وقالوا: إن هذا يصلح أن يكون ملكاً علينا، وآخرون اختلفوا فيه ولم يريدوه فوقع بينهم الشقاق والجدال وعظمت الفتنة بينهم، وبعد ذلك حصل بينهم توافق على أن يناموا تلك الليلة ولا يبكر أحد إلى السروح في طلب المعيشة غدا بل يصبرون جميعاً إلى الصباح وعند طلوع الفجر يكونون مجتمعين في موضع واحد ينظرون إلى كل واحد يسبق في الطيران وقالوا: إنه هو الذي يكون مختاراً عندنا للملك فنجعله ملكاً علينا ونوليه أمرنا، فرضوا كلهم بذلك وعاهد بعضهم بعضاً واتفقوا على هذا العهد، فبينما هم على هذا الحال إذ طلع باز فقالوا له: يا أبا الخير نحن اخترناك والياً علينا تنظر في أمرنا، فرضي الباز بما قالوه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الواحدة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير الخامس قال للملك: فرضي الباز بما قالوه وقال لهم: إن شاء الله تعالى سيكون لكم مني خير عظيم، ثم أنهم بعد ما ولوه عليهم صار كل يوم إذا سرح يسرح الغربان وينفرد بأحدهم ويضربه ويأكل دماغه وعينيه ويترك الباقي، ولم يزل يفعل معهم هكذا حتى فطنوا به فرأوا غالبهم قد هلك فأيقنوا بالهلاك وقال بعضهم لبعض: كيف نصنع وقد هلك أكثرنا وما انتهينا حتى هلك أكابرنا فينبغي أن نتيقظ لأنفسنا فلما أصبحوا نفروا منه وتفرقوا من حوله ونحن الآن نخشى أن يقع لنا مثل هذا ويصير علينا ملك غيرك ولكن قد منّ الله علينا بهذه النعمة ووجهك إلينا ونحن الآن واثقون بالصلاح وجمع الشمل والأمن والأمانة والسلامة في الوطن فتبارك الله العظيم وله الحمد والشكر والثناء الجميل وبارك الله للملك ولنا معشر الرعية ورزقنا وإياه السعادة العظمى وجعله سعيد الوقت قائم الجد، ثم قام الوزير السادس وقال: هناك الله أيها الملك بأحسن الهناء في الدنيا والآخرة فقد تقدم من قول المتقدمين أن من صلى وصام وقام بحقوق الوالدين وعدل في حكمه أبقي ربه وهو راضٍ عنه وقد وليت علينا فعدلت فكنت بذلك سعيد الحركات فسأل الله تعالى أن يجزل ثوابك ويأجرك على إحسانك وقد سمعت ما قال هذا العالم فيما نتخوف من حرمان حظنا بدم الملك ويوجد ملك آخر لا يكون فيعظم اختلافنا بعده ويقع البلاء في الإختلاف وإذا كان الأمر على ما ذكرناه فواجبٌ علينا أن نبتهل إلى الله تعالى بالدعاء لعله يهب للملك ولداً سعيداً ويجعله وارثاً للملك بعده.

ثم بعد ذلك ربما كان الذي يحبه الإنسان من الدنيا ويشتهيه مجهول العاقبة له وحينئذ لا ينبغي للإنسان أن يسأل ربه أمر لا يدري عاقبته لأنه ربما كان ضرر ذلك أقرب إليه من نفعه فيكون هلاكه في مطلوبه ويصيبه مثل ما أصاب الحاوي وزوجته وأهل بيته.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير السادس لما قال للملك: أن الإنسان لا ينبغي له أن يسأل ربه شيئاً لا يدري عاقبته، لأنه ربما كان ضرر ذلك أقرب إليه من نفعه فيكون هلاكه في مطلوبه، ويصيبه ما أصاب الحاوي وأولاده وزوجته وأهل بيته فقال الملك: وما حكاية الحاوي وزوجته وأهل بيته؟ فقال الوزير: أعلم أيها الملك أنه كان إنسانا حاوياً وكان يربي الحيات وهذه كانت صنعته، وكان عنده سلةً كبيرةً فيها ثلاث حيات لم يعلم بها أهل بيته وكان كل يوم يخرج يدور بها في المدينة ويتسبب بها، بتحصيل رزقه ورزق عياله ويرجع عند المساء إلى بيته ويضع الأحناش في السلة سراً وعند الصباح يأخذها ويدور بها في المدينة فكان هذا دابه على الدوام ولم يعلم أهل بيته بما في السلة فجاء إلى بيته على عادته يوماً فسألته زوجته وقالت له: ما في السلة؟ فقال لها الحاوي: وما مرادك منها؟ أليس الزاد عندكم كثيراً زائداً فاقنعي بما قسم الله لك ولا تسألي عن غيره فسكتت عند تلك المرأة وصارت تقول في نفسها: لا بد لي أن أفتش هذه السلة وأعرف ما فيها، وصممت على ذلك وأعلمت أولادها وأكدت عليهم أن يسالوأ والدهم على تلك السلة ويلحوا عليه في السؤال لأجل أن يخبرهم فعند ذلك تعلق خاطر الأولاد بأن فيها شيءٌ يؤكل فصار الأولاد كل يومٍ يطلبون من أبيهم أن يريهم ما في السلة وكان أبوهم يدافعهم ويراضيهم وينهاهم عن هذا السؤال فمضت لهم مدة وهم على ذلك الحال وأمهم تحثهم على ذلك.

ثم اتفقوا معها على أنهم لا يذوقون طعاماً ولا يشربون شراباً لوالدهم حتى يبلغهم طلبهم ويفتح لهم السلة، فبينما هم كذلك ذات ليلةٍ إذ حضر الحاوي ومعه شيء كثير من الأكل والشرب، فقعد ودعاهم ليأكلوا معه فأبوا من الحضور إليه وبينوا له الغيظ فجعل يلاطفهم بالكلام الحسن ويقول له: انظروا ماذا تريدون حتى أجيء به إليكم أكلاً أو شرباً أو ملبوساً فقالوا له: يا والدنا ما نريد منك إلا فتح هذه السلة لننظر ما فيها وإلا قتلنا أنفسنا فقال لهم: يا أولادي ليس لكم فيها خير وإنما فتحها ضرراً لكم فعند ذلك ازدادوا غيظاً.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الحاوي قال لأولاده: إن فتح السلة فيه ضررٌ لكم فازدادوا غيظاً فلما رآهم على هذه الحالة أخذ يهددهم ويشير لهم بالضرب إن لم يرجعوا عن تلك الحالة فلم يزدادوا إلا غيظاً ورغبةً في السؤال فعند ذلك غضب عليهم وأخذ عصاً ليضربهم بها فهربوا من قدامه في الدار وكانت السلة حاضرة لم يخفها الحاوي في مكان فخلت المرأة الرجل مشغولاً بالأولاد وفتحت السلة بسرعة لكي تنظر ما فيها وإذا بالحيات قد خرجت من السلة ولدغوا المرأة فقتلوها ثم داروا في الدار وهلكوا الكبار والصغار ما عدا الحاوي فترك الحاوي الدار وخرج فلما تحققت ذلك أيها الملك السعيد علمت أن الإنسان ليس له أن يتمنى شيء لم يرده الله تعالى، بل يطيب نفساً بما قدره الله تعالى وأرادها، أنت أيها الملك مع غزارة علمك وجودة فهمك أقر الله عينك بحضور ولدك بعد اليأس وطيب قلبك ونحن نسأل الله تعالى أن يجعله من الخلفاء العادلين المرضين لله تعالى والرعية.

ثم قام الوزير السابع وقال أيها الملك أني قد علمت وتحققت ما ذكره لك أخوتي هؤلاء الوزراء العلماء وما تكلموا به في حضرتك أيها الملك وما تميزت به عمن سواك من الملوك حيث فضلوك عنهم وذلك من بعض الواجب علينا أنا، وأما أنا فأقول الحمد لله الذي ولاك نعمته وأعطاك صلاح الملك برحمته وأعانك وإيانا على أن تزيده شكراً وما ذاك إلا وجودك وما دمت فينا لم نتخوف جوراً ولا نبغي ظلماً ولا يستطيع أحدٌ أن يستطيل علينا مع ضعفنا وقد قيل: إن أحسن الرعايا من كان ملكهم عادلاً وشرهم من كان ملكهم جائراً. وقيل أيضاً: السكنى مع الأسود الكواسر ولا السكنى مع السلطان الجائر، فالحمد لله تعالى على ذلك حمداً دائماً حيث أنعم علينا بوجودك ورزقك هذا الولد المبارك بعد اليأس والطعن في السن، لأن أجمل العطايا في الدنيا الولد الصالح وقد قيل: من لا ولد له ولا ذكر وأنت بقويم عدلك وحسن ظنك بالله تعالى أعطيت هذا الولد السعيد فجاءك هذا الولد المبارك منة من الله تعالى علينا وعليك بحسن سيرتك وجميل صبرك وصار فيك ذلك مثل ما صار في العنكبوت والريح، فقال الملك: وما حكاية العنكبوت والريح.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك قال للوزير: وما حكاية العنكبوت والريح؟ فقال الوزير: أعلم أيها الملك أن عنكبوتة تعلقت في باب متنح عالٍ وعملت لها بيتاً وسكنت فيه بأمانٍ وكانت تشكر الله تعالى الذي يسر لها هذا المكان وآمن خوفها من الهوان، فسكنت على هذا الحال مدة من الزمان وهي شاكرةً لله على راحتها واتصال رزقها فامتحنها خالقها بأن أخرجها لينظر شكرها وصبرها فأرسل إليها ريحاً عاصفاً شرقياً فحملها ببيتها ورماها في البحر فجرتها الأمواج إلى البر فعند ذلك شكرت الله تعالى على سلامتها وجعلت تعاقب الريح قائلةً لها: أيتها الريح لم فعلت بي ذلك وما الذي حصل لك من الخير في نقلي من مكاني إلى هنا وقد كنت آمنة مطمئنة في بيتي بأعلى ذلك الباب؟ فقالت لها الريح: انتهي عن العتاب فأني سأرجع بك وأوصلك إلى مكانك كما كنت أولاً فلبثت العنكبوت صابرةً على ذلك راجيةً أن ترجع إلى مكانها حتى ذهبت ريح الشمال ولم ترجع بها وهبت ريح الجنوب فمرت بها واختطفتها وطارت بها إلى جهة ذلك البيت فلما مرت به عرفته فتعلقت به. ونحن نسأل الله الذي أتاب الملك على وحدته وصبره ورزقه هذا الغلام بعد يأسه وكبر سنه ولم يخرجه من هذه الدنيا حتى رزقه قرة عين له ووهب له ما وهب من الملك والسلطان فرحم رعيته وأولاهم نعمته.

فقال الملك: الحمد لله فوق كل حمد والشكر له فوق كل شكر لا إله ألا هو خالق كل شيءٍ الذي عرفنا نور آثاره وجلال عظمته يؤتي الملك والسلطان من يشاء من عباده في بلاده لأنه ينتجب من يشاء ليجعله خليفة ووكيلاً على خلفه ويأمره فيهم بالعدل والإنصاف وإقامة الشرائع والسنن والعمل بالحق والإستقامة في أمورهم على ما أحب وأحبوا فمن أهمل منهم بما أمر الله كان لحظه مصيباً ولأمر ربه مطيعاً فيكفيه هول دنياه ويحسن جزاؤه في آخراه إنه لا يضيع أجر المحسنين ومن عمل منهم بغير ما أمر الله أخطأ خطأً بليغاً وعصى ربه وآثر دنياه على آخراه فليس في الدنيا مآثر ولا في الآخرة نصيب لأن الله يمهل أهل الجود والفساد ولا يهمل أحداً من العباد وقد ذكر وزراؤنا هؤلاء أن من عدلنا بينهم وحسن تصرفنا معهم أنعم علينا وعليهم بالتوفيق لشكره المستوجب لمزيد إنعامه وكل واحدٍ منهما قال ما ألهمه الله في ذلك وبالعوافي الشكر لله تعالى والثناء عليه بسبب نعمته وفضله وأنا أشكر الله لأني إنما أنا عبدٌ مأمورٌ وقلبي بيده ولساني تابع له راضٍ بما حكم الله علي وعليهم بأي شيءٍ صار وقد قال كل واحدٍ منهم: ما خطر بباله أمر هذا الغلام وذكر وما كان من متجدد النعمة علينا حين بلغت من السن حداً يغلب معه اليأس وضعف اليقين والحمد لله الذي نجانا من الحرمان واختلاف الحكام كإختلاف الليل والنهار وقد كان ذلك أنعاماً عظيماً عليهم وعلينا فنحمد الله تعالى الذي رزقنا هذا الغلام سمياً مطيعاً وجعله وارثاً من الخلافة رفيعاً نسأله من كرمه وحلمه أن يجعله سعيد الحركات موفقاً للخيرات حتى يصير ملكاً وسلطاناً على رعيته بالعدل والإنصاف حافظاً لهم من هلكات الإعتساف بمنه وكرمه وجوده.
فلما فرغ من كلامه قام الحكماء والعلماء وسجدوا لله وشكروا الملك وقبلوا يديه وانصرف كل واحدٍ منهم إلى بيته. فعند ذلك دخل الملك بيته وأبصر الغلام ودعاه له وسماه وردخان فلما تم له من العمر اثنتا عشرة سنة أراد الملك أن يعلمه العلوم فبنى له قصراً في وسط المدينة وبنى فيه ثلثمائة وستين مقصورة وجعل الغلام فيه ورتب له ثلاثة من الحكماء والعلماء وأمرهم أن لا يغفلوا عن تعليمه ليلاً ونهاراً وأن يجلسوا معه في كل مقصورة يوماً ويحرصوا على أن لا يكون علم إلا ويعلمونه إياه حتى يصير بجميع العلوم عارفاً ويكتبون على باب كل مقصورة ما يعلمونه له فيها من أصناف العلوم يرفعون إليه في كل سبعة أيام ما عرفه من العلوم.

ثم أن العلماء أقبلوا على الغلام وصاروا لا يفترون عن تعليمه ليلاً ونهاراً ولا يؤخرون عنه شيء مما عندهم من العلوم فظهر للغلام من ذكاء العقول وجودة الفهم وقبول العلم ما لم يظهر لأحد قبله وجعلوا يرفعون للملك وفي كل أسبوع مقدار ما تعلمه ولده وأتقنه فكان الملك يستظهر من ذلك علماً حسناً وأدباً جميلاً وقال العلماء: ما رأينا قط من أعطى فهماً مثل هذا الغلام فبارك الله لك فيه ومتعك بحياته فلما أتم الغلام مدة اثنتي عشرة سنة حفظ من كل علمٍ أحسنه وفاق جميع العلماء والحكماء الذين في زمانه فأتى به العلماء إلى الملك والده وقالوا له: أقر الله عينيك أيها الملك بهذا الولد السعيد وقد أتيناك به بعد أن تعلم كل علم حتى لم يكن أحد من علماء الوقت وحكمائه بلغ من بلغه ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً وزادني في شكر الله تعالى وخر ساجداً لله عز وجل وقال: الحمد لله على نعمه التي لا تحصى ثم دعا بالوزير شماس وقال له: أعلم يا شماس أن العلماء قد أتوني وأخبروني أن ابني هذا قد تعلم كل علم ولم يبق من العلوم علمٌ إلا وقد علموه له حتى فاق من تقدمه في ذلك فما تقول يا شماس؟ فسجد عند ذلك لله عز وجل وقبل يد الملك وقال: أبت الياقوتة ولو كانت في الجبل الأصم إلا أن تكون مضيئةً كالسراج وابنك هذا جوهرة فما تمنعه حداثته من أن يكون حكيماً والحمد لله على ما أولاه وأنا إن شاء الله تعالى في غد أسأله واستيقظه بما عنده في مجمع أجمعه له من خواص العلماء والأمراء.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك جليعاد لما سمع كلام شماس أمر جهابذة العلماء وأذكياء الفضلاء ومهرة الحكماء أن يحضروا إلى قصر الملك في غد فحضروا جميعاً فلما اجتمعوا على باب الملك أذن لهم بالدخول.

ثم حضر شماس الوزير وقبل يدي ابن الملك فقام ابن الملك وسجد للشماس، فقال له الشماس: لا يجب على شبل الأسد أن يسجد لأحد من الوحوش ولا ينبغي أن يقترن النور بالظلام، قال الغلام: إن شبل الأسد لما رأى وزير الملك سجد له فعند ذلك قال له الشماس: أخبرني ما الدائم المطلق وما كوناه وما الدائم من كونيه؟ قال الغلام: أما الدائم المطلق فهو الله عز وجل لأنه أول بلا ابتداء وآخر بلا انتهاء وأما كوناه فالدنيا والآخرة وأما الدائم من كونيه فهو نعيم الآخرة. قال الشماس صدقت فيما قلت وقبلته منك غير أني أحب أن تخبرني من أين علمت أن أحد الكونين هو الدنيا وثانيهما هو الآخرة. قال الغلام لأن الدنيا خلقت ولم يكن من شيءٍ كائنٍ فآل أمرها إلى الكون الأول غير أنها عرض سريع الزوال مستوجب الجزاء على الأعمال وذلك يستدعي إعادة الفاني، فالآخرة هي الكون الثاني، قال شماس: صدقت فيما قلت وقبلت منك غير أني أحب أن تخبرني من أين علمت أن نعيم الآخرة هو الدائم من الكونين، قال الغلام: علمت ذلك من أنها دار الجزاء على الأعمال التي أعدها الباقي بلا زوال، قال الشماس: أخبرني أي أهل الدنيا أحمد عملاً قال الغلام: من يؤثر آخرته على دنياه؟ قال الشماس ومن الذي يؤثر آخرته على الدنيا، قال الغلام: من كان يعلم أنه في دار منقطعة وأنه ما خلق إلا الفناء وأنه بعد الفناء يحاسب وأنه لو كان له الدنيا أحداً مخلداً أبداً لا يؤثر للدنيا على الآخرة. قال شماس: أخبرني هل تستقيم آخره بغير دنيا، قال الغلام: من لم يكن له دنيا فلا آخرة له ولكن رأيت الدنيا وأهلها والمعاد الذي هم سائرون إليه كمثل أهل هؤلاء الضياع الذين لهم أمير بيتاً ضيقاً وأدخلهم فيه وأمرهم بعمل منهم ما أمر به أخرجه الشخص الموكل به من ذلك الضيق ومن لم يعمل ما أمر به وقد انقضى الأجل المضروب له عوقب.

فبينما هم كذلك إذ رشح لهم من شقوق البيت عسل فلما أكلوا من العسل وذاقوا طعمه وحلاوته ترانوا في العمل الذي أمروا به ونبذوه وراء ظهورهم وصبروا على ما هم فيه من الضيق والغم مع ما علموا من تلك العقوبة التي هم سائرون إليها وقنعوا بتلك الحلاوى اليسيرة وصار الموكل بهم لا يدع أحداً منهم إذا جاء أجله إلا ويخرجه من ذلك البيت فعرفنا أن دار تتحير فيها الأبصار وضرب لأهلها فيها الآجل فمن وجد الحلاوة القليلة التي تكون في الدنيا وأشغل نفسه بها كان من الهالكين حيت أثر أمر دنياه على آخرته ومن يؤثر آخرته على دنياه ولم يلتفت إلى تلك الحلاوة القليلة كان من الفائزين.

قال الشماس: قد سمعت ما ذكرت من أمر الدنيا والآخرة وقبلت ذلك منك ولكني قد رأيتهما مسلطين على الإنسان فلا بد له من إرضائهما معاهما مختلفان فإن أقبل العبد على طلب المعيشة فذلك أضرار بروحه في المعاد وإن أقبل على الآخرة كان ذلك أضرار بجسده وليس له سبيل إلى إرضاء المتخلفين معاً. قال الغلام: إنه ما حصل المعيشة من الدنيا تقوى على الآخرة فإني رأيت أمر الدنيا والآخرة مثل ملكين عادل وحائر وكانت أرض الملك الحائر ذات أشجار وأثمار ونبات وكان ذلك الملك لا يدع أحداً من التجار إلا أخذ ماله وتجارته وهم صابرون على ذلك لما يصيبونه من خصب تلك الأرض في المعيشة.

وأما الملك العادل فأنه بعث رجلاً من أهل أرضه وأعطاه مالاً وافراً وأمره أن ينطلق إلى أرض الملك الجبار ليبتاع به جواهر منه فانطلق ذلك الرجل بالمال حتى دخل تلك الأرض فقيل للملك إنه جاء إلى أرضك رجلٌ تاجرٌ ومعه مالٌ كثيرٌ يريد أن يبتاع به جواهر منها فأرسل إليه وأحضره وقال له: من أنت؟ ومن أين أتيت؟ ومن جاء بك إلى أرضي؟ وما حاجتك؟ فقال له: أني من أرضٍ كذا وكذا وأن ملك تلك الأرض أعطاني مالاً وأمرني أن أبتاع له به جواهر من هذه الأرض فامتثلت أمره وجئت. فقال له الملك: ويحك أما علمت صنعي بأهل أرضي من أني آخذ مالهم في كل يوم فكيف تأتيني بمالك وها أنت مقيمٌ في أرضي منذ كذا وكذا، فقال له التاجر: إن الملك ليس لي منه شيء، وإنما هو أمانة تحت يدي حتى أوصله إلى صاحبه فقال له: إني لست بتاركك تأخذ معيشتك من أرضي حتى تفدي نفسك بهذا المال جميعه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك الجائر قال للتاجر الذي يريد أن يشتري الجواهر من أرضه لا يمكن أن تأخذ معاشاً من أرضي حتى تفدي نفسك بهذا المال وتهلك، فقال الرجل في نفسه: وقعت بين ملكين وقد علمت أن جور هذا الملك عام على كل من أقام بأرضه فأن أرضه كان هلاكي وذهاب المال لا بد منهما ولم أصب حاجتي وإن أعطيته جميع المال كان هلاكي عند الملك صاحب المال لا بد منه وليس لي حيلةٌ سوى أن أعطيه من هذا المال جزءاً يسيراً وأرضيه به وأذهب عن نفسي وعن هذا المال الهلاك وأصيب من خصب هذه الأرض قوت نفسي حتى أبتاع ما أريد من الجواهر وأكون قد أرضيته بما أعطيته وأخذ نصيبي من أرضه هذه وأتوجه إلى صاحب المال بحاجته فأني أرجو من عدله وتجاوزه ما لا أخاف معه عقوبة فيما أخذه هذا الملك من المال خصوصاً إذا كان يسيراً.

ثم أن التاجر دعا الملك وقال له: أيها الملك أنا أفدي نفسي وهذا المال بجزء صغير منه منذ دخلت أرضك حتى أخرج منها، فقبل الملك منه ذلك وخلى سبيله سنة فاشترى الرجل بماله جميعه جواهر وانطلق إلى صاحبه الملك العادل مثالاً للآخرة والجواهر التي بأرض الملك الجائر مثل الحسنات والأعمال الصالحة والرجل صاحب المال مثل لمن طلب الدنيا والمال الذي معه مثال الحياة الإنسان، فلما رأيت ذلك علمت أنه ينبغي لمن طلب المعيشة في الدنيا أن لا يخلي يوماً عن طلب الآخرة فيكون قد أرضى الدنيا بما ناله من خصب الأرض وأرضى الآخرة بما يصرف من حياته.

قال شماس: فأخبرني عن الجسد والروح سواء في الثواب والعقاب أو إنما يختص بالعقاب صاحب الشهوات وفاعل الخطيئات، قال الغلام: قد يكون الميل إلى الشهوات والخطيئات موجبات للثواب بحبس النفس عنها والتوبة منها والأمر بيد من يفعل ما يشاء وبعدها تتميز الأشياء على أن المعاش لا بد منه للجسد ولا جسد إلا بالروح وطهارة الروح بإخلاص النية في الدنيا والالتفاتات إلى أن ينفع في الآخرة فهما فرساً رهان ورضيعاً لبان ومشتركان في الأعمال وباعتبار النية تفصيل الإجمال وكذلك الجسد والروح مشتركان في الأعمال وفي الثواب والعقاب وذلك مثل الأعمى والمقعد الذين أخذهما رجل صاحب بستان وأدخلهما بستان وأمرهما أن لا يفسدا فيه ولا يصنعا فيه أمراً يضر به. فلما طابت أثمار البستان قال المقعد للأعمى: ويحك أني أرى أثمار طيبة وقد اشتهينا لها ولست أقدر على القيام إليها لآكل منها فقم أنت لأنك صحيح الرجلين وائتنا منها بما نأكل، فقال الأعمى: ويحك قد ذكرتها لي، وقد كنت عنها غافلاً ولست أقدر على ذلك لأني لست أبصرها، فما الحيلة في تحصيل ذلك، فبينما هما كذلك إذ أتاهما الناظر على البستان وكان رجلاً عالماً فقال له المقعد، ويحك يا ناظر إنا قد اشتهينا شيئاً من هذه الثمار ونحن كما ترى أنا مقعد وصاحبي هذا أعمى لا يبصر شيئاً فما حيلتنا؟ فقال لهما الناظر: ويحكما لستما تعلمان ما عاهدكما عليه صاحب البستان من أنكما لا تتعرضان لشيءٍ مما يؤثر فيه من الفساد فانتهينا ولا تفعلا، فقالا له: لا بد لنا من أن نصيب من هذه الثمار ما نأكله فأخبرنا بما عندك من الحيلة فلما لم ينتهيا عن ريهما، قال لهما: الحيلة في ذلك أن يقوم الأعمى ويحملك أيها المقعد على ظهره ويدنيك من الشجرة التي تعجبك ثمارها حتى إذا أدناك منها تجني أنت ما أصبت من الثمار فقام الأعمى وحمل المقعد وجعل يهديه إلى السبيل حتى أدناه إلى شجرة فصار المقعد يأخذ منها ما أحب ولم يزل ذلك دابهما حتى أفسدا ما في البستان من الشجر وإذا بصاحب البستان قد جاء وقال لهما: ويحكما ما هذه الفعال؟ ألم أعاهدكما على أن لا تفسدا في هذا البستان.؟ فقالا له: قد علمت أننا لا نقدر أن نصل إلى شيءٍ من الأشياء لأن أحدنا مقعد لا يقوم والآخر أعمى لا يبصر ما بين يديه فما ذنبنا؟ فقال لهما صاحب البستان: لعلكما تظنان أني لست أدري كيف صنعتما وكيف أفسدتما في بستاني كأني بك أيها الأعمى قد قمت وحملت المقعد على ظهرك وصار يهديك السبيل حتى أوصلته إلى الشجر، ثم أنه أخذهما وعاقبهما عقوبةً شديدةً وأخرجهما من البستان. فالأعمى مثال للجد لأنه لا يبصر إلا بالنفس والمقعد مثال للنفس التي لا حركة لها إلا بالجسد وأما البستان فأنه مثال للعمل الذي لا يجازي به العبد والناظر مثال للعقل الذي يأمر بالخير وينهي عن الشر، فالجسد والروح مشتركان في الثواب قال له شماس: قد صدقت وأنا قبلت قولك هذا فأخبرني أي العلماء عندك أحمد؟ قال الغلام: من كان بالله عالماً وينفعه علمه قال شماس: ومن ذلك؟ قال الغلام: من يلتمس رضا ربه ويتجنب سخطه قال فأيهم أفضل؟ قال الغلام: من كان بالله أعلم قال شماس: فمن أشدهم اختباراً؟ قال: من كان على العمل بالعلم صباراً قال شماس: أخبرني من أرقهم قلباً؟ قال: أكثرهم استعداداً للموت وذكراً وأقلهم أملاً لأن من أدخل على نفسه طوارق الموت كان مثل الذي ينظر في المرآة الصافية فإنه يعرف الحقيقة ولا تزداد المرآة إلا صفاء وبريقاً. قال شماس: أي الكنوز أحسن؟ قال: كنوز السماء قال: أحسن قال: تعظيم الله وتحميده قال: فأي كنوز الأرض أفضل؟ قال: اصطناع المعروف.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير شماس لما قال لابن الملك: أي كنوز الأرض أفضل قال له اصطناع المعروف قال: صدقت وقد قبلت قولك هذا فأخبرني عن الثلاثة المختلفة: العلم والذهن وعن الذي يجمع بينهما؟ قال الغلام: إنما العلم من التعلم وأما الرأي فأنه من التجارب وأما الذهن فأنه من التفكر وثباتهم واجتماعهم في العقل فمن اجتمعت فيه هذه الخصال كان كاملاً ومن جمع إليهم تقوى الله على مصيباً قال شماس: صدقت وقد قبلت منك ذلك فأخبرني عن العلم العليم ذي الرأي السديد والفطنة الوقادة والذهن الفائق الرائق هل يغيره الهوى والشهوة عن هذه الحالات؟ قال الغلام: إن هاتين الخصلتين إذا أدخلتا على الرجل غيرنا علمه ورأيه وذهنه وكان مثل العقاب الكاسر الذي عن القنص محاذر المقيم في جو السماء لفرط حذقه فبينما هو كذلك إذ نظر رجلاً صياداً قد نصب شركه، فلما فرغ الرجل من نصب الشرك وضع فيه قطعة لحم فعند ذلك أبصر العقاب قطعة اللحم فغلب عليه الهوى والشهوة حتى نسي ما شاهده من الشرك ومن سوء الحال لكل من وقع من الطير فانقض من جو السماء حتى وقع على قطعة اللحم فاشتبك في الشرك. فلما جاء الصياد رأى العقار في شركه فتعجب عجباً شديداً وقال: أنا نصبت شركي ليقع فيه حمام أو نحوه من الطيور الضعيفة فكيف وقع فيه هذا العقاب؟ وقد قيل: إن الرجل العاقل إذا حمله الهوى والشهوة على أمر ينبغي أن يجعل عقله مثل الفارس الماهر في فروسيته إذا ركب الفرس الأرعن فإنه يجذبه باللجام الشديد حتى يستقيم ويمضي معه على ما يريد وأما من كان سفيها لا علم له ولا رأي عنده والأمور مشتبهة عليه والهوى والشهوة مسلطان عليه فإنه يشمل بشهوته وهواه فيكون من أثماره ولا يكون في الناس أسوأ حالاً منه.

قال شماس: صدقت فيما قلت وقد قبلت ذلك منك فأخبرني متى يكون العلم نافعاً والعقل لونان: الهوى والشهوة دافعاً قال الغلام: إذا صرفهما صاحبهما في طلب الآخرة لأن العقل والعلم كليهما نافعان ولكن ليس ينبغي لصاحبهما أن يصرفهما في طلب الدنيا إلا بمقدار ما يصيب به قوته ويدفع عن نفسه شرها ويصرفها في عمل الآخرة قال: أخبرني ما أحق أن يلزم الإنسان ويشغل به قلبه قال: العمل الصالح قال: فإذا فعل الرجل ذلك شغله عن معاشه فكيف يفعل في المعيشة التي لا بد له منها؟ قال الغلام: إن نهاره وليله أربعة وعشرون ساعة فينبغي له أن يجعل منها جزءاً واحداً في طلب المعيشة وجزءاً واحداً للدعة والراحة ويصرف الباقي في طلب الباقي في طلب العلم لأن الإنسان إذا كان عاقلاً وليس عنده علم فأنه هو كالأرض المجدبة التي ليس فيها موضع للعمل والفرس والنبات. فإذا لم تهيأ للعمل وتفرس لا ينفع فيها ثمر وإذا هيئت للعمل وغرست أنبتت ثمراً حسناً كذلك الإنسان بغير علم لا ينفع به حتى يغرس فيه العلم فإذا غرس فيه العلم أثمر قال شماس: فأخبرني عن علمٍ بغير عاقل ما شأنه قال: كعلم البهيمة التي تعلمت أوان مطعمها ومشربها وأوان يقظتها ولا عقل لها قال شماس: قد أوجزت في الإجابة عن ذلك وقد قبلت منك هذا الكلام فأخبرني كيف ينبغي أن أتوقى السلطان؟ قال الغلام: لا تجعل له عليك سبيلاً قال: وكيف أستطيع أن لا أجعل له علي سبيلاً وهو مسلط علي وزمام أمري بيده؟ قال الغلام: إنما سلطانه عليك بحقوقه التي قبلك فإذا أعطيته حقه فلا سلطان له عليك قال شماس: ما حق الملك على الوزير: قال النصيحة والإجتهاد في السر والعلانية والرأي السديد وكتم سره وأن لا يخفى عنه شيئاً مما هو حقيق بالإطلاع عليه وقلة الغفلة عما قلده إياه من قضاء حوائجه وطل رضاه بكل وجهٍ واجتناب سخطه عليه قال شماس: فأخبرني ما الذي يفعله الوزير مع الملك؟ قال الغلام: إذا كنت وزيراً للملك وأحببت أن تسلم منه فليكن سمعك وكلامك له فوق ما يؤمله منك وليكن طلبك منه الحاجة على قدر منزلتك عنده وأحذر أن تنزل نفسك منزلةً لم يرك لها أهلاً فيكون ذلك منك مثل الجراءة عليه فإذا اغتررت بحلمه ونزلت نفسك منزلة لم يرك لها أهلا تكون مثل الصياد الذي يصطاد الوحوش فيسلخ جلودها لحاجته إليها ويطرح لحومها فيجعل الأسد يأتي إلى ذلك المكان فيأكل من تلك الجيفة، فلما كثر تردده إلى ذلك المحل استأنس بالصياد وألفه فأقبل الصياد يرمي إليه ويمسح يده على ظهره وهو يلعب بذيله فعندما رأى الصياد سكوت الأسد له واستئناسه به وتذلله إليه قال في نفسه: إن هذا الأسد قد خضع إليه وملكته وما رأى إلا أني أركبه وأسلخ جلده مثل غيره من الوحوش فتجاسر الصياد ووثب على ظهر الأسد وطمع فيه فلما رأى الأسد ما صنع الصياد غضب غضباً شديداً ثم رفع يده وضرب الصياد فدخلت مخالبه في أمعائه ثم طرحه تحت قوائمه ومزقه تمزيقاً فمن ذلك علمت أنه ينبغي للوزير أن يكون عند الملك على حسب ما يرى من حاله ولا يتجاسر عليه الفضل رأيه فيتغير الملك عليه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام ابن الملك جليعاد قال للوزير شماس: ينبغي للوزير أن يكون عند الملك على حسب ما يرى من حوله ولا يتجاسر عليه لفضل رأيه فيتغير الملك عليه قال شماس: فأخبرني ما الذي يتزين به الوزير عند الملك؟ قال الغلام: داء الأمانة التي فرض إليه أمرها من النصيحة وسداد الرأي وتنفيذه لأوامره وقال له شماس: أما ما ذكرت من أن حق الملك على الوزير أن يتجنب سخطه ويفعل ما يقتضي رضاه ويهتم بما قلده إياه فأنه أمرٌ واجبٌ ولكن أخبرني ما الحيلة إذا كان الملك إنما رضاه بالجور وارتكاب الظلم والعسف، فما حيلة الوزير إذا هو ابتلى به بعشرة ذلك الملك الجائر فإنه أراد أن يصرفه عن هواه وشهوته ورأيه لا يقدر على ذلك وإن هو تابعه على هواه وحسن له رأيه حمل وزر ذلك وصار للرعية عدواً فما تقول في هذا؟ فأجابه الغلام قائلاً: إن ما ذكرت أيها الوزير من الوزر والإثم إنما هو إذا تابعه على ما أرتكبه من الخطأ ولكن يجب على الوزير إذا شاوره الملك في مثل هذا أن يبين له طريق العدل والإنصاف ويحذره من الجور والإعتساف ويعرفه حسن السيرة في الرعية ويرغبه فيما في ذلك من الثواب ويحذره عما يلزمه من العقاب فإن مال وعطف إلى كلامه حصل المراد وإلا فلا حيلة له إلا بمفارقته إياه بطريقة لطيفة لأن في المفارقة لكل واحدٍ منهما الراحة. قال الوزير: فأخبرني ما حق الملك على الرعية وما حق الرعية على الملك؟ قال: الذي يأمرهم به يعلمونه بنيةٍ خالصة ويطيعونه فيما يرضيه ويرضي الله ورسوله وحق الرعية على الملك حفظ أموالهم وصون حريمهم كما إن للملك على الرعية السمع والطاعة وبذل الأنفس دونه وإعطاءه واجب حقه وحسن الثناء عليه بما أولاهم من عدله وإحسانه قال شماس: قد بينت لي ما سألتك عنه من حق الملك والرعية فأخبرني هل بقي للرعية شيءٌ على الملك غير ما قلت؟ قال الغلام: نعم حق الرعية على الملك أوجب من حق الملك على الرعية وهو أن ضياع حقهم عليه أضر من ضياع حقه عليهم لأنه لا يكون هلاك الملك وزوال ملكه ونعمه إلا من ضياع حق الرعية فمن تولى ملكاً يجب عليه أن يلازم ثلاثة أشياءٍ وهي: إصلاح الدين وإصلاح السياسة، فبملازمة هذه الأمور يدوم ملكه، قال: أخبرني كيف ينبغي أن يستقيم في إصلاح الرعية؟ قال: بأداء حقهم وإقامة سنتهم، واستعمال العلماء والحكماء لتعليمهم وإنصاف بعضهم من بعضٍ وحقن دمائهم والكف عن أموالهم وتخفيف الثقل عنهم وتقوية جيوشهم، قال: فأخبرني ما حق الوزير على الملك؟ قال الغلام: ليس على الملك حقٌ لأحد من الناس أوجب عليه الواجب من الحق الواجب عليه للوزير ثلاث خصال: الأولى للذي يصيبه معه خطأ الرأي والإنتفاع العام للملك والرعية عند سداد الرأي، والثانية لعلم الناس حسن منزلة الوزير عند الملك فتنظر إليه الرعية بعين الإجلال والتوقير وخفض الجناح، والثالثة أن الوزير إذا شاهد ذلك من الملك والرعية دفع عنهم ما يكرهونه ووفى لهم بما يحبونه قال شماس: قد سمعت ما قلته لي من صفات الملك والوزير والرعية وقبلته منك فأخبرني ما ينبغي لحفظ اللسان عن الكذب والسفاهة وسب العرض والإفراط في الكلام؟ قال الغلام: ينبغي للإنسان أن لا يتكلم إلا بالخير والحسنات ولا ينطق في شأن ما لا يعنيه ويترك النميمة ولا ينقل عنه حديثاً سمعه منه لعدوه ولا يطلب لصديقه ولا لعدوه ضرراً عند سلطانه ولا يعبأ بمن يرتجيء خبره ويتقي شره إلا الله تعالى لأنه هو الضار النافع على الحقيقة ولا يذكر لأحد عيباً ولا يتكلم بجهلٍ لئلا يلزمه الوزير والإثم من الله والبغض بين الناس وأعلم أن الكلام مثل السهم إذا نفذ لا يقدر أحدٌ على رده وليحذر أن يودع سره عند من يفشيه فربما تقع في ضرارية إفشائه بعد أن يكون على ثقة من الكتمان وإن مخفياً لسره عن صديقه أكثر من إخفائه عن عدوه فإن كتمان السر عن جميع الناس من أداء الأمانة.

قال شماس: فأخبرني عن حسن الخلق مع الأهل والأقارب؟ قال الغلام: إنه لا راحة لبني آدم إلا بحسن الخلق ولكن ينبغي أن يصرف الأهل ما يستحقونه وإلى أخوانه ما يجب لهم قال: أخبرني ما الذي يجب أن يصرفه إلى الأهل؟ قال: أما الذي يصرفه للوالدين فخفض الجناح وحلاوة اللسان ولين الجانب والإكرام والوقار وأما الذي يصرفه للإخوان فالنصيحة وبذل المال ومساعدتهم على أسبابهم والفرح لفرحهم والإغضاء عما يقع منهم من الهفوات فإذا عرفوا منه ذلك قابلوه بأعز ما عندهم من النصيحة وبذلوا الأنفس دونه فإذا كنت من أخيك على ثقةٍ فأبذل له وكن مساعداً له على جميع أموره.

وفي الليلة التاسعة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام ابن الملك جليعاد لما سأله الوزير شماس عن المسائل المتقدمة ورد له أجوبتها قال الوزير شماس له: إني أرى الأخوان صنفين: أخوان ثقة وأخوان معاشرة، أما أخوان الثقة فأنه يجب لهم ما وصفت فأسألك عن غيرهم من أخوان المعاشرة قال الغلام: أما أخوان المعاشرة فإنك تصيب منهم لذة وحسن خلق وحلاوة لفظ وحسن معاشرة فلا تقطع منهما لذتك بل أبذل مثل ما يبذلونه لك وعاملهم بمثل ما يعاملونك به من طلاقة الوجه وعذوبة اللسان فيطيب عيشك ويكون كلامك مقبولاً عندهم.

قال شماس: قد عرفنا هذه الأمور كلها فأخبرني عن الأرزاق المقدرة للخلق من الخالق هل هي مقسومة بين الناس والحيوان فكل واحد رزقٍ إلى تمام أجله وإذا كان الأمر كذلك ما الذي يحمل طالب المعيشة على إرتكاب المشقة في طلب ما عرف أنه لم يكن مقدوراً له فلا بد من حصوله وأن لم يرتكب مشقة السعي وأن لم يكن مقدوراً له فلا يتحصل له ولو سعى إليه غاية السعي فهل يترك السعي ويكون على ربه متوكلاً ولجسده ونفسه مريحاً؟ قال الغلام: إنا رأينا لكل واحدٍ رزقاً مقسوماً وأجلاً محتوماً ولكن لكل رزقٍ طريق وأسباب فصاحب الطلب يصيب في طلبه الراحة بترك الطلب ومع ذلك لا بد من طلب الرزق غير أن الطالب على ضر بين أما أن يصيب وأما أن يحرم راحة المصيب في الحالتين أصابة رزقه وإن عاقبه طلبه حميدة وراحة المحروم في ثلاث خصال: الإستعداد لطلب رزقه والتنزه عن أن يكون كلا على الناس والخروج عن عهدة الملامة.

قال شماس: أخبرني عن باب طلب المعيشة؟ قال الغلام: يستحل الإنسان ما أحله الله ويحرم ما أحرمه الله عز وجل وانقطع بينهما الكلام لما وصل إلى هذا الحد ثم قام الوزير شماس هو ومن حضر من العلماء وسجدوا للغلام وعظموه وضمه أبوه إلى صدره ثم بعد ذلك أجلسه على سرير الملك وقال: الحمد لله الذي رزقني ولداً أقر به عيناي في حياتي.

ثم قال الغلام لشماس ومن حضر من العلماء: أيها العالم صاحب المسائل الروحانية إن لم يكن فتح الله علي من العلم إلا شيء قليل فإني قد فهمت قصدك في قبولك مني ما أتيت به جواباً عن ما سألتني سواء كنت مصيباً أو مخطئاً ولعلك صفحت عن خطئي وأنا أريد أن أسألك عن شيء عجز عنه رأيي وضاق منه ذرعي وكل عن وصفه لساني لأنه أشكل على أشكال الماء الصافي في الإناء الأسود فأحب منك أن تشرحه لي حتى لا يكون شيئاً مبهماً على مثلي فيما يستقبل مثل إبهامه علي فيما مضى لأن الله كما جعل الحياة بالماء والقوة بالطعام وشفاء المريض مداواة الطبيب جعل شفاء الجاهل يعلم العالم فأنصت إلى كلامي.

قال الوزير شماس: أيها المضيء العقل صاحب المسائل الصالحة ومن شهد له العلماء كلهم بالفضل لحسن تفضيلك للأشياء وتقسيمك إياها وحسن أصابتك في إجابتك عما سألتك عنه قد علمت أنت لست تسألني عن شيء ما إلا وأنت في تأويله أصوب رأياً وأصدق مقالاً لأن الله قد أتاك من العلم ما لم يأت أحداً من الناس فأخبرني عن هذه الأشياء التي تسألني عنها؟ قال الغلام: أخبرني عن الخالق جلت قدرته من أي الأشياء خلق الخلق ولم يكن قبل ذلك شيء وليس ترى في هذه الدنيا شيء إلا مخلوق من شيء والباريء تبارك وتعالى قادر على أن يخلق الأشياء من لا شيء ولكن اقتضت إرادته مع كمال القدرة والعظمة أنه لا يخلق شيئاً إلا من شيءٍ.

قال للوزير شماس: أما صناع الآلات من الفخار وغيره من الصنائع فلا يقدرون على إبتداع شيءٍ إلا من شاء أدهم مخلوقون وأما الخالق الذي صنع العلم بهذه الصنعة العجيبة فإن شئت أن تعرف قدرته تبارك وتعالى على إيجاد الأشياء فأطل الفكر في أصناف الخلق فأنك ستجد آيات وعلامات دالة على كمال قدرته وإنه قادر على أن يخلق الأشياء من لا شيءٍ بل أوجدها بعد العدم المحض لأن العناصر التي هي مادة الأشياء كانت عدماً محضاً وقد أوضحت لك ذلك حتى لا تكون في شك منه وبين لك ذلك آية الليل والنهار فإنهما يتعاقبان حتى إذا ذهب النهار وجاء الليل خفي علينا النهار ولم نعرف له مقراً وإذا ذهب الليل بظلمته ووحشته جاء النهار ولم نعرف لليل مقراً وإذا أشرقت علينا الشمس لا نعرف أين يطوي نورها وإذا غربت لم نعرف مستقر غروبها وأمثال ذلك من أفعال الخالق عز اسمه وجلت قدرته كثيرة مما يحير أفكار الأذكياء من كبار المخلوقات.

قال الغلام: أيها العالم أنك عرفتني عن قدرة الخالق ما لا يستطاع إنكاره لكن أخبرني كيف إيجاده لخلقه؟ قال الوزير شماس: إنما الخلق مخلوقة بكلمته التي هي موجودة قبل الدهر وبها خلق جميع الأشياء قال الغلام: إن الله تعاظم اسمه وارتفعت قدرته إنما أراد إيجاد الخلق قبل وجودهم قال شماس: وبإرادته خلقهم بكلمته فلولا أن له نظفاً وأظفر كلمةً لم تكن الخليفة موجودة.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة العاشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما سأل شماساً عن المسائل المتقدمة أجابه عنها ثم قال له: إنه لا يخبرك أحد من الناس غير ما قلته إلا بتحريف الكلام الوارد في الشرائع عن موضعه وصرف الحقائق عن وجوهها ومن ذلك قولهم أن الكلمة لها استطاعة أعوذ بالله من هذه العقيدة بل قولنا في الله عز وجل أنه خلق الخلق بكلمته معناه إنه تعالى واحدٌ في ذاته وصفاته وليس معناه أن كلمة الله لها قدرة بل القدرة صفة الله كما أن الكلام وغيره من صفات الله تعالى شأنه وعز سلطانه فلا يوصف هو دون كلمته ولا توصف كلمته دونه، فالله جل ثناؤه خلق بكلمته جميع خلقه وبغير كلمته لم يخلق وإنما خلق الأشياء بكلمته الحق، فبالحق نحن مخلوقون.

قال الغلام: قد فهمت من أمر الخالق وعزت كلمته ما ذكرت وقبلت ذلك بفهم لكني سمعتك تقول إنما خلق الخلق بكلمته الحق، والحق ضد الباطل فمن أين عرض الباطل وكيف يمكن عرضه للحق حتى يشتبه به ويلتبس على المخلوقين فيحتاجون إلى الفصل بينهما وهو الخالق عز وجل محبٍ لهذا الباطل أم مبغضٍ له، فإن قلت أنه محب للحق وبه حق خلقه ومبغض للباطل فمن أين دخل هذا الذي يبغضه الخالق على ما يحبه وهو الحق؟ قال شماس: إن الله لما خلق الإنسان ولم يكن محتاجاً إلى توبة حتى دخل الباطل على الحق الذي هو مخلوق به سبب الإستطاعة التي جعلها الله في الإنسان وهي الإرادة والميل المسمى بالكسب، فلما دخل الباطل على الحق بهذا الاعتبار ألتمس الباطل بالحق بسبب إرادة الإنسان واستطاعته والكسب الذي هو الجزء الإختياري مع ضعف طبيعة الإنسان فخلق الله له التوبة لتصرف عنه ذلك الباطل وتثبته على الحق وخلق له العقوبة إن هو أقام على ملابسه الباطل.

قال الغلام: فأخبرني ما سبب عروض هذا الباطل للحق حتى ألتبس به وكيف وجبت العقوبة على الإنسان حتى أحتاج إلى التوبة؟ قال شماس: إن الله خلق الإنسان بالحق جعله محباً له ولم يكن له عقوبة ولا توبة، واستمر كذلك حتى ركب الله فيه النفس التي هي من كمال الإنسانية مع ما هي مطبوعة عليه من الميل إلى الشهوات فنشأ من ذلك عروض الباطل والتباسه بالحق الذي خلق الإنسان به وطبع على حبه، فلما صار الإنسان إلى هذه الغاية زاغ عن الحق إنما يقع في الباطل.

قال الغلام: إن الحق إنما دخل عليه الباطل بالمعصية والمخالفة، فقال شماس: وهو كذلك لأن الله يحب الإنسان ومن زيادة محبته له خلق الإنسان محتاجاً إليه وذلك هو الحق بعينه ولكن ربما استرخى الإنسان عن ذلك بسبب ميل النفس إلى الشهوات ومال إلى الخلاف فصار إلى ذلك الباطل بالمعصية التي بها عصى ربه فاستوجبت لعقوبة وبإزاحة الباطل عنه بتوبته ورجوعه إلى محبة الحق استوجب الثواب.

قال الغلام: أخبرني عن مبتدأ المخالفة مع أن الخالق مرجعهم جميعاً إلى آدم وقد خلقه الله بالحق فكيف جل المعصية لنفسه ثم قرنت معصيته بالتوبة بعد تركيب النفس ليكون عاقبة الثواب والعقاب ونحن نرى بعض الخلق مقيماً على المخالفة مائلاً إلى ما لا يحبه مخالفة لمقتضى أصل خلفته من حب لحق مستوجباً لسخط ربه عليه وترى بعضهم مقيماً على رضا خالقه وطاعته مستوجباً للرحمة والثواب: فما سبب الإختلاف الحاصل بينهم؟ قال شماس: إن أول نزول هذه المعصية بالخلق إنما كان بسبب إبليس الذي كان أشرف ما خلق الله جل اسمه من الملائكة والإنس والجن وكان مطبوعاً على المحبة لا يعرف غيرها فلما انفرد بهذا الأمر داخله العجب والعظمة والتجبر والتكبر عن الإيمان والطاعة لأمر خالقه فجعله الله جل اسمه لا يحب المعصية ورأى آدم ما هو فيه من ذلك الحق والمحبة والطاعة لخالقه داخله الحسد فاستعمل الحيلة في صرفه لآدم عن الحق ليكون مشتركاً معه في الباطل فلزم العقوبة لميله إلى المعصية التي زينها له عدوه وإنقياده إلى هواه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شماس قال: فلزم آدم العقوبة لميله إلى المعصية التي زينها له عدوه وإنقياده إلى هواه وحيث خالف وصية ربه بسبب عروض الباطل، ولما علم الخالق جل ثناؤه وتفسدت أسماه ضعف الإنسان وسرعة ميله إلى عدوه وتركه الحق جعل له الخالق برحمته التوبة لينهض بها من ورطة الميل إلى المعصية ويحمل سلاح التوبة فيقهر به عدوه إبليس وجنوده ويرجع إلى الحق الذي هو مطبوع عليه.

فلما نظر إبليس أن الله جل ثناؤه وتقدست أسماؤه قد حول ممتداً بارداً إلى الإنسان بالمحاربة وأدخل عليه الحيل ليخرجه من نعمة ربه ويجعله شريكاً له في السخط الذي استوجبه هو وجنوده فجعل الله جل ثناؤه للإنسان استطاعة للتوبة وأمره أن يلزم الحق ويداوم عليه ونهاه عن المعصية والخلاف والهمه أن له على الأرض عدواً محارباً لا يفتر عنه ليلاً ولا نهاراً، فبذلك استحق الإنسان ثواباً أن لازم الحق جبلت طبيعته وعقاباً أن غلبته نفسه ومالت به الشهوات.

فقال له الغلام: بعد ذلك أخبرني بأي قوةٍ استطاع الخلق أن يخالفوا خالقهم وهو في غاية العظمة كما وصفت مع أنه لا يقهره شيءٌ ولا يخرج عن إرادته، ألا ترى أنه قادر على صرف خلقه عن هذه المعصية وإلزامهم المحبة دائماً. قال شماس: إن الله تعالى جل اسمه عادلٌ منصفٌ رؤوفٌ بأهل محبته قد بين لهم طريق الخير ومنحهم الإستطاعة والقدرة على فعل ما أرادوا من الخير فأن عملوا بخلاف ذلك صاروا في الهلاك والمعصية. قال الغلام: إذا كان الخالق هو الذي منحهم الإستطاعة وهم بسببها قادرون على فعل ما أرادوا فلاي شيءٍ لم يحل بينهم وبين ما يريدون من الباطل حتى يردهم إلى الحق؟.

قال شماس: قد خلق كل شيء ولم يرض إلا ما يحب. قال الغلام: ما بال هذين الشيئين أحدهما يرضي الله ويوجب الثواب لصاحبه والأخر يغضب الله فيحل العذاب بصاحبه؟ قال شماس بين هذين الأمرين وأفهمنهما حتى أتكلم في شأنهما. قال الغلام هما الخير والشر المركبان في الجسم والروح.

قال شماس: أيها العاقل أراك قد علمت أن الخير والشر من الأعمال التي يعملها الجسد والروح فسمي الخير منها خيراً لكونه فيه رضا الله وسمي الشر شراً لكونه سخط الله وقد وجب عليك أن تعرف الله وترضيه بفعل الخير لأنه أمرنا بذلك ونهانا عن فعل الشر.

قال الغلام: إني أرى هذين الشيئين أعني الخير والشر إنما يعملهما الحواس الخمسة المعروفة في جسد الإنسان وهي محل الذوق الناشيء عنه الكلام والسمع والبصر والشم واللمس، فأحب أن تعرفني هل هذه الحواس الخمس خلقت للخير جميعاً أم للشر؟ قال شماس: افهم أيها الإنسان بيان ما سألت عنه وهو الحجة الواضحة وضعها في ذهنك وأشر بها قلبك وهو أن الخالق تبارك وتعالى خلق الإنسان بالحق وطبعه على حبه ولم يصدر عنه مخلوق إلا بالقدرة العلية المؤثرة في كل حادث ولا ينسب تعالى وتبارك إلا إلى الحكم بالعدل والإنصاف والإحسان وقد خلق الإنسان لمحبته وركب فيه النفس المطبوعة على الميل إلى الشهوات وجعل له الاستطاعة وجعل هذه الحواس الخمس سبباً للنعيم أو للجحيم.

قال الغلام: وكيف ذلك؟ قال شماس: لأنه خلق الإنسان للتعلق واليدين للعمل والرجلين للمشي والبصر للنظر والأذنين للسمع وقد أعطى كل واحدة من هذه الحواس استطاعة وهيجها على العمل والحركة وأمر كل واحد منها أن لا تعمل إلا برضاه والذي يرضاه من النطق الصدق وترك ما هو ضده الذي هو الكذب ومما يرضيه من البصر صرف النظر إلى ما يحبه الله وترك ضده وهو صرف النظر إلى ما يكرهه الله كالنظر إلى الشهوات ومما يرضيه من السمع أن لا يسمع إلا إلى الحق كالموعظة ما في كتب الله وترك ضده وهو أن يسمع ما يوجب سخط الله ومما يرضيه من اليدين أن لا يقدر ما حولهما الله بل يصرفاه على وجه يرضيه وترك ضده وهو الإمساك أو صرف ما حولهما الله في معصية.

ومما يرضيه من الرجلين أن يكون سعيهما في الخير كقصد التعليم وترك ضده وهو أن يمشيا في سبيل الله وما سوى ذلك من الشهوات التي يعملها الإنسان فإنه يصدر من الجسد بأمر الروح. ثم الشهوة التي تصدر من الجسد نوعان شهوة التناسل وشهوة البطن، فالذي يرضي الله من شهوة التناسل أنها لا تكون إلا حلالاً وسخطه أن تكون حراماً. وأما شهوة البطن فالأكل والشرب، والذي يرضي الله من ذلك أن لا يتعاطى منه كل واحد إلا ما أحله له قليلاً كان أو كثيراً ويحمد الله ويشكره والذي يغضب الله منه أن يتناول ما ليس له بحق وما سوى ذلك من هذه الأحكام باطل، وقد علمت أن الله خلق كل شيءٍ ولا يرضى إلا الخير وأمر كل عضو من أعضاء الجسد أن يفعل ما أوجبه عليه لأنه هو العليم الحكيم.

قال الغلام: فأخبرني هل سبق في علم الله جلت قدرته أن آدم يأكل من الشجرة التي نهاه الله عنها حتى كان من أمره ما كان وبذلك خرج من الطاعة إلى المعصية.

قال شماس: نعم أيها العالم قد سبق ذلك في علم الله تعالى قبل أن يخلق آدم وبيان ذلك ودليله ما تقدم له من التحذير عن الأكل وإعلامه أنه إذا أكل منها يكون عاصياً وذلك من طريق العدل والإنصاف لئلا يكون لآدم حجة يحتج بها على ربه فلما أن سقط في الورطة والهفوة وعظمت عليه المعيرة والمعتبة جرى ذلك في نسله من بعده فبعث الله تعالى الأنبياء والرسل وأعطاهم كتباً فأعلمونا بالشرائع وبينوا لنا ما فيها من المواعظ والأحكام وفصلوه لنا وأوضحوا لنا السبيل الموصل وبينوا لنا ما يجب أن نفعله وما يجب أن نتركه فنحن مسلطون بالإستطاعة.

فمن عمل بهذه الحدود فقد أصاب وربح ومن تعدى هذه الحدود وعمل بغير هذه الوصايا فقد خالف وخسر في الدارين وهذه سبيل الخير والشر فقد علمت أن الله قادر على جميع الأشياء وما خلق الشهوات لنا إلا برضاه وإرادته وأمرنا أن نأخذها على وجه الحلال لتكون لنا خيراً وإذا استعملناها على وجه الحرام فأنها تكون لنا شراً فما أصابنا من حسية فمن الله تعالى وما أصابنا من سيئة فمن أنفسنا معاشر المخلوقين لا من الخالق تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام ابن الملك جليعاد لما سأل الوزير شماساً عن هذه المسائل ورد له أجوبتها قال له ما وصفته لي مما ينسب إلى الله تعالى ومما ينسب إلى خلقه فقد فهمته فأخبرني عن هذا الأمر الذي حير علي فرط التعجب منه فأني عجبت من ولد آدم وغفلتهم عن الآخرة وتركهم الذكرى لها ومحبتهم للدنيا وقد علموا أنهم يتركونها ويخرجون منها وهم صاغرون.

قال شماس نعم فأن الذي تراه من تغيرها وغدرها بأهلها دليل على أنه لا يدوم لصاحب النعيم نعيمه ولا لصاحب البلاء بلاؤه فليس يأمن لصاحبها تغيرها وإن كان قادراً عليها ومغبتطاً بها فلا بد أن يتغير حاله ويسرع إليه الإنتقال وليس الإنسان منها على ثقة ولا ينتفع بما هو من زخرفها وحيث عرفنا ذلك عرفنا أن أسوأ الناس حالاً من أعتز بها وسهى عن الآخرة وأن ذلك النعيم الذي قد أصابه، لا يعادل ذلك الخوف والمشقة والأهوال التي تحصل له بعد الإنتقال منها وعلمنا أنه لو كان العبد يعلم ما يصيبه عند حضور الموت وفراقه ما هو فيه من اللذات والنعيم لرفض الدنيا وما فيها وتيقنا أن الآخرة خير لنا وأنفع.

قال الغلام أيها العالم قد زالت هذه الظلمة التي كانت على قلبي بمصباحك المضيء وأرشدتني إلى السبيل التي سلكتها من أتباع الحق وأعطيتني سراجاً أنظر به فعند ذلك قام أحد الحكماء الذين كانوا بالحضرة وقال أنه إذا كان زمان الربيع فلا بد أن يطلب الأرنب مع الفيل مرعى وقد سمعت منكما من المسائل والتفاسير ما لم أرني أسمعه أبدا فدعاني ذلك إلى أن أسألكما فأخبراني ما خير مواهب الدنيا قال الغلام: صحة الجسم ورزقٌ حلال وولدٌ صالح قال فأخبراني ما الكبير فهو ما صبر له أصغر منه وأما الصغير فهو ما صبر لأكبر منه قال فأخبراني ما الأربعة أشياء التي تجتمع الخلائق فيها قال الغلام: تجتمع الخلائق في الطعام والشراب ولذة النور وشهوة النساء وفي سكرات الموت قال فما الثلاثة أشياء لا يقدر أحد على تنحية القباحة عنها؟.

قال الغلام: الحماقة وخسة الطبع والكذب قال: فأي الكذب أحسن مع أنه كله قبيح؟ قال الغلام: الكذب الذي يضع عن صاحبه الضرر ويجر النفع قال: وأي الصدق قبيح وأن كان كله حسناً؟ قال الغلام: كان الإنسان بما عنده وإعجابه به، قال: وما أقبح القبيح؟ قال الغلام: إذا أعجب الإنسان بما ليس عنده، قال: فأي الرجال أحمق؟ قال الغلام: من كان ليس له همة إلا في شيءٍ يضعه في بطنه. قال شماس: أيها الملك أنت ملكنا ولكن نحب أن تعهد لولدك بالملك من بعدك ونحن الخول والرعية فعند ذلك حث الملك من حضر من العلماء والناس على أن ما سمعوه منه يحفظونه ويعملون به وأمرهم أن يمتثلوا أمر ابنه فإنه جعله ولي عهده من بعده ليكون خليفة على ملك والده وأخذ العهد على جميع أهل مملكته من العلماء والشجعان والشيوخ والصبيان وبقية الناس أن لا يتخلوا عليه ولا ينكثوا عليه أمره، فلما أتى على ابن الملك سبع عشر سنة مرض الملك مرضاً شديداً حتى أشرف على الموت فلما أيقن الملك أن الملك قد نزل به قال لأهله: هذا داء الموت قد نزل بي فادعوا إلي أقاربي وولدي وأجمعوا إلي أهل مملكتي حتى لا يبقى منهم أحدٌ إلا ويحضر فخرجوا ونادوا الناس القريبين وجهزوا بالنداء للناس البعيدين حتى حضروا جميعهم ودخلوا على الملك، ثم قالوا له: كيف أنت أيها الملك وكيف ترى نفسك من مرضك هذا؟ قال لهم الملك: إن مرضي هذا هو القاضي وقد نفذ السهم بما قدره الله تعالى علي وأنا الآن في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة، ثم قال لابنه: ادن مني فدنا منه الغلام وهو يبكي بكاءً شديداً حتى كاد أن يبل فراشه والملك قد دمعت عيناه وبكى كل من حضر ثم قال الملك لولده: لا تبك يا ابني فأني لست بأول من جرى له هذا الأمر المحتوم لأنه جار على جميع ما خلقه الله فاتق الله وأعمل خيراً يسبقك إلى الموضع الذي تقصده جميع الخلائق ولا تطع الهوى واشغل نفسك بذكر الله في قيامك وقعودك ويقظتك ونومك واجعل الحق نصب عينيك وهذا آخر كلامي معك والسلام.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك جليعاد لما أوصى ولده بهذه الوصية وعهد له الملك من بعده قال الغلام لأبيه: قد علمت يا أبي أني لم أزل لك مطيعاً ولوصيتك حافظاً ولأمرك منفذاً ولرضاك طالباً وأنت لي نعم الأب فكيف أخرج بعد موتك عما ترضى به وأنت بعد حسن تربيتي مفارق ولا أقدر على ردك وعلى هذا حفظت وصيتك وصرت بها سعيداً وصار لي النصيب الأكبر.

فقال له الملك وهو في غاية الإستغراق من سكرات الموت: يا ابني إلزم عشر خصالٍ ينفعك الله بهن في الدنيا والآخر وهن: إذا اغتظت فاكظم غيظك وإذا بليت فاصبر وإذا نطقت فاصدق وإذا وعدت فأوف وإذا حكمت فأعدل وإذا قدرت فاعطف واكر قوادك وأصفح عن أعدائك وأبذل معروفك لعدوك وكف أذاك عنه. وإلزم أيضاً عشر خصال أخرى ينفك الله بها في أهل مملكتك وهن: إذا قسمت فأعدل وإذا عاقبت بحق فلا تجر وإذا عاهدت فأوف بعهدك وأقبل النصح وأترك اللاجاجة وإلزم الرعية بالإستقامة على الشرائع والسنن الحميدة وكن حاكماً عادلاً بين الناس حتى يحبك كبيرهم وصغيرهم ويخافك غاتيهم ومفسدهم.

ثم قال للحاضرين العلماء والأمراء الذين كانوا حاضرين عهده لولده بالملك من بعده: إياكم ومخالفة أمر ملككم وترك الإستماع لكثيركم فإن في ذلك هلاكاً لأرضكم وتفريقاً لجمعكم وضرراً لأبدانكم وتلفاً لأموالكم فتشمت بكم أعداؤكم وها أنتم علمتم ما عاهدتموني عليه فهكذا يكون عهدكم مع هذا الغلام والميثاق الذي بيني وبينكم وبينه وعليكم بالسمع والطاعة لأمره لأن في ذلك صلاح أحوالكم واثبتوا معه على ما كنتم معي فستقيم أموركم ويحسن حالكم وها هو ذا ملككم وولي نعمتكم والسلام.

ثم بعد هذا اشتدت به سكرات الموت والتجم لسانه فضم إليه ابنه وقبله وشكر الله ثم قضى نحبه وطلعت روحه فناح عليه جميع رعيته وأهل مملكته ثم أنهم كفنوه ودفنوه بإكرامٍ وتبجيلٍ وإعظامٍ. ثم رجعوا والغلام معهم فألبسوه حلة الملك وتوجوه بتاج والده وألبسوه الخاتم في إصبعه وأجلسوه على سرير الملك فسار الغلام فيهم بسير أبيه من الحكم والعدل والإحسان مدةً يسيرةً ثم تعرضت له الدنيا وجذبته بشهواتها فاستغنم لذاتها وأقبل على زخارف أمورها وترك ما كان قلده به أبوه من المواثيق ونبذ الطاعة لوالده وأهمل مملكته ومشى فيما هو هلاكه واشتد به حب النساء فسار لا يسمع بامرأةٍ حسناء إلا ويرسل إليها ويتزوج بها فجمع من النساء عددٌ أكثر مما جمع سليمان بن دواد ملك بني إسرائيل وصار يختلي كل يومٍ بطائفةٍ منهن ويستمر مع من يختلي بهن شهراً كاملاً لا يخرج من عندهن ولا يسأل عن ملكه ولا عن حكمه ولا ينظر في مظلمة من يشكوا إليه من رعيته وإذا كاتبوه فلا يرد لهم جواباً.

فلما رأوا منه ذلك وعاينوا ما هو منطوٍ عليه من ترك النظر في أمورهم وإهماله لأمور دولته وأمور رعيته تحققوا أنهم عن قليلٍ يحل بهم البلاء فشق ذلك عليهم وأقبل بعضهم على بعضٍ يتلاومون فقال بعضهم لبعضٍ: امشوا بنا إلى شماسٍ كبيرٍ وزرائه نقص عليه أمرنا ونعرفه ما يكون من أمر هذا الملك لينصحه وإلا فعن قليل يحل بنا البلاء فإن هذا الملك قد أدهشته الدنيا بلذاتها وختنته بأشطانها.

فقاموا وأتوا شماساً وقالوا له: أيها العالم الحكيم أن هذا الملك قد أدهشته الدنيا بلذاتها وختنته بأشطانها فأقبل على الباطل وسعى في فساد مملكته تفسد العامة ويصير أمرنا إلى الهلاك وسببه أننا نمكث شهراً كاملاً وأياماً ما نراه ولا يبرز إلينا من عنده أمن لا للوزير ولا لغيره ولا يمكن أن ترفع إليه حاجةً ولا ينظر في حكومةٍ ولا يتعهد حال أحدٍ من رعيته لغفلته عنهم وأننا قد أتينا إليك لنخبرك بحقيقة الأمور ولأنك أكبرنا وأكمل منا وليس ينبغي أن يكون بلاءٍ في أرضٍ أنت مقيمٍ بها لأنك أقدر الناس على إصلاح هذا الملك فانطلق وكلمه لعله يقبل كلامك ويرجع إلى الله.

فقام شماس ومضى إلى حيث اجتمع بمن يمكنه الوصول إليه وقال له: أيها الولد الجيد أسألك أن تستأذن لي في الدخول للملك لأن عندي أمرٌ أريد أنظر وجهه وأخبره به وأسمع ما يجيبني به عنه، فأجاب الغلام قائلاً: والله يا سيدي منذ شهر لم يأذن لأحد في الدخول عليه ولا أنا فطول هذه المدة ما رأيت له وجهاً ولكن أدلك على من يستأذنه لك وهو أنك تتعلق بالوصيف الفلان الذي يقوم على رأسه ويأخذ له الطعام من المطبخ فإذا خرج إلى المطبخ ليأخذ الطعام اسأله عما بدا لك فأنه يفعل لك ما تريده.

فانطلق شماس إلى باب المطبخ وجلس قليلاً وإذا بالرصيف أقبل وأراد الدخول إلى المطبخ فكلمه شماس قائلاً له: يا بني أحب أن اجتمع بالملك لأخبره بكلام يخصه فمن فضلك إذا فرغ من غدائه وطابت نفسه أن تكلمه لي وتأخذ لي منه إذناً بالدخول عليه لكي أكلمه بما يليق به فقال الوصيف سمعاً وطاعةً فلما أخذ الوصيف الطعام وتوجه إلى الملك وأكل منه وطابت نفسه قال له الوصيف: إن شماساً واقفاً بالباب يريد منك الإذن في الدخول عليك ليعلمك بأمور تختص بك ففزع الملك وارتاب من ذلك وأمر الوصيف بإدخاله عليه.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك لما أمر الوصيف بإدخال شماس عليه خرج الوصيف إلى شماس ودعاه إلى الدخول فلما دخل على الملك خر لله ساجداً وقبل يد الملك ودعا له فقال الملك: ما أصابك يا شماس حتى طلبت الدخول علي؟ فقال له: إن لي مدة لم أر وجه سيدي الملك وقد اشتقت إليك كثيراً فها أنا شاهدت أطلعتك وجئت إليك بكلامٍ أذكره لك أيها الملك المؤيد بكل نعمةٍ فقال له: قل ما بدا لك، فقال شماس: اعلم أيها الملك إن الله تعالى رزقك من العلم والحكمة على حداثة سنك من لم يرزقه أحداً من الملوك قبلك وأن الله تمم لك ذلك بالملك وإن الله يحب أنك لا تخرج عما حولك إلى غيره سبب عصيانك فلا تحاربه بذخائرك بل ينبغي أن تكون لوصاياه حافظاً ولأموره جائعاً لأني قد رأيتك منذ أيام قلائل نسيت أباك ووصيته ورفضت عهده وأضعت نصيحته وكلامه وزهدت في عدله وأحكامه ولم تذكر نعمة الله عليك ولم تعيذها بشكره قال الملك: وكيف ذلك وما سببه؟ قال شماس: إنك تركت تعهد أمور مملكتك وما قلدك إياه الله من أمور رعيتك وأقبلت على النفس فما حسنته لك من قليل شهوات الدنيا وقد قيل: أن إصلاح الملك والدين والرعية مما ينبغي للملك أن يحافظ عليه والرأي عندي أن تحسن النظر في عاقبتك فإنك تجد السبيل الواضح الذي فيه النجاة ولا تقبل على اللذة القليلة الفانية الموصلة إلى ورطة الهلاك فيصيبك ما أصاب صياد السمك فقال له الملك: وكيف كان ذلك؟ قال شماس: قد بلغني أن صياداً قد أتى إلى نهرٍ ليصطاد منه على عادته فلما وصل إلى النهر ومشى على الجسر أبصر سمكةً عظيمةً فقال في نفسه: ليس لي حاجة بالمقام تهنا فأنا أمشي وأتبع هذه السمكة إلى حيث تذهب حتى آخذها وهي تغنني عن الصيد مدة أيامٍ فتعرى من ثيابه ونزل خلف السمكة وأخذها جريان الماء إلى أن ظفر بالسمكة وقبض عليها ثم التفت فوجد نفسه بعيداً عن الشاطئ، فلما رأى ما قد صنع به جريان الماء لم يترك السمكة ويرجع بل خاطر بنفسه وقبض عليها بيديه وترك جسده سابحاً مع جريان الماء، فما زال يسحبه الماء إلى أن رماه في وسط دوامةٍ لا يدخلها أحدٌ ويخلص منها فصار يصيح ويقول: أنقذوا الغريق فأتاه ناسٌ من المحافظين على البحر وقالوا له: ما شأنك وما دهاك حتى ألقيت بنفسك في هذا الخطر العظيم؟ فقال لهم: أنا الذي تركت السبيل الواضح الذي فيه النجاة وأقبلت على الهوى والتهلكة، فقالوا: يا هذا كيف تركت سبيل النجاة وأدخلت نفسك في هذه التهلكة وأنت تعرف من قديمٍ أنه ما دخل تهنا أحدٌ وسلم فما الذي منعك عن رمي ما في يدك ونجاة نفسك فكنت تنقذ روحك ولا تقع في هذا الهلاك الذي لا نجاة منه فلأن ليس أحدٌ منا ينقذك من هذه التهلكة فقطع الرجل الرجاء من حياته وفقد ما كان بيده مما حملته نفسه عليه وهلك هلاكاً عظيماً وما ضربت لك أيها الملك هذا المثل إلا لأجل أن تدع هذا الأمر الحقير الذي فيه اللهو عن مصالحك وتنظر فيما أنت متقلدٌ به من سياسة رعيتك والقيام بنظام ملكك حتى لا يرى أحدٌ فيك عيباً.
قال الملك: فما الذي تأمرني به؟ قال شماس: إذا كان في غدٍ وأنت بخيرٍ وعافية ائذن للناس في الدخول عليك وأنظر في أحوالهم وأعتذر إليهم ثم عدهم من نفسك بالخير وحسن السيرة، فقال الملك: يا شماس أنك تكلمت بالصواب وأني فاعل ما نصحتني به في غد إن شاء الله تعالى. فخرج شماس من عنده وأعلم الناس بكل ما ذكره له. فلما أصبح الصباح خرج الملك من حجابه وأذن للناس في الدخول عليه وصار يعتذر إليهم ووعدهم أن يصنع لهم ما يحبون فرضوا بذلك وانصرفوا وسار كل واحدٍ إلى منزله ثم أن بعض نساء الملك وكانت أحبهن إليه وأكرمهن عنده قد دخلت عليه فرأته متغير اللون متفكراً في أموره بسبب ما سمعه من كبير وزرائه فقالت: ما لي أراك أيها الملك قلق النفس هل تشتكي شيئاً؟ فقال لها: لا إنما استغرقتني اللذات عن شؤوني فما لي ولهذه الغفلة عن أحوالي وعن أحوال رعيتي وإن استمريت على ذلك فعن قليلٍ يخرج ملكي من يدي، فأجابته قائلةً: إني أراك أيها الملك مع عمالك ووزرائك مغشوشاً فإنما يريدون نكايتك وكيدك حتى لا تحصل لك من ملكك هذه اللذة ولا تغنم نعيماً ولا راحةً بل يريدون أن تقضي عمرك في دفاع المشقة عنهم حتى أن عمرك يفنى بالنصب والتعب وتكون مثل الذي قتل نفسه لإصلاح غيره أو تكون مثل الفتى واللصوص، فقال الملك: وكيف كان ذلك؟ فقالت: ذكروا أن سبعةً من اللصوص خرجوا ذات يوم يسرقون على عادتهم فمروا على بستان فيه جوز رطب فدخلوا ذلك البستان وإذا هم بولدٍ صغيرٍ واقف بينهم فقالوا: يا فتى هل لك أن تدخل معنا هذا البستان وتطلع هذه الشجرة وتأكل من جوزها كفايتك وترمي لنا منها جوزاً؟ فأجابهم الفتى إلى ذلك ودخل معهم.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الفتى لما أجاب اللصوص ودخل معهم قال بعضهم لبعض: انظروا إلى أخينا وأصغرنا فاصعدوه فقالوا: ما نرى فينا ألطف من هذا الفتى. فلما أصعده قالوا: يا فتى لا تلمس من الشجرة شيئاً لئلا يراك أخوك فيؤذيك فقال الفتى: وكيف أفعل؟ فقالوا له أقعد في وسطها وحرك كل غصنٍ منها تحريكاً قوياً حتى يتناثر ما فيه فنلتقطه وإذا فرغ ما فيها ونزلت إلينا فخذ نصيبك مما التقطناه، فلما صعد الفتى على الشجرة صار يحرك كل غصن وحده أتجوز يتناثر منه واللصوص يجمعونه.

فبينما هم كذلك وإذا بصاحب الشجرة واقف عندهم وهم على ذلك الحال فقال لهم: ما لكم ولهذه الشجرة؟ فقالوا له: لم نأخذ منها شيئاً، غير أننا مررنا بها فرأينا هذا الفتى فوقها فاعتقدنا أنه صاحبها فطلبنا منه أن يطعمنا منها فهز بعض الأغصان حتى انتثر منها أتجوز ونحن ما لنا ذنبٌ، فقال صاحب الشجرة للغلام: فما تقول أنت؟ فقال: كذب هؤلاء ولكن أنا أقول لك الحق وهو أننا أتينا جميعاً إلى هنا فأمروني بالصعود على هذه الشجرة لأهز الأغصان كي ينتثر أتجوز عليهم فامتثلت أمرهم فقال له صاحب الشجرة: لقد ألقيت نفسك في بلاءٍ عظيمٍ وهل انتفعت بأكل شيءٍ منها؟ فقال الغلام: ما أكلت منها شيئاً. فقال له صاحب الشجرة: لقد علمت الآن حماقتك وجهلك وهو أنك سعيت في تلف نفسك لإصلاح غيرك ثم قال اللصوص: ما لي عليكم سبيل أمضوا إلى سبيلكم وقبض على الولد وعاقبه وهكذا وزراؤك وأهل دولتك يريدون أن يهلكوك لإصلاح أمرهم ويفعلوا بك مثل ما فعل اللصوص بالفتى فقال الملك: حقاً ما قلتيه ولقد صدقت في خبرك فأنا لا أخرج إليهم ولا أترك لذاتي، ثم بات مع زوجته في أرغد عيش إلى أن أصبح الصباح فقام الوزير وجمع أرباب الدولة مع من حضر معهم من الرعية ثم جاؤوا إلى باب الملك مستبشرين فرحين فلم يفتح لهم الباب ولم يخرج إليهم ولم يأذن لهم بالدخول عليه. فلما يئسوا من ذلك قالوا لشماس: أيها الوزير الفاضل والحكيم الكامل أما ترى حال هذا الصبي الصغير السن القليل العقل، الذي قد جمع إلى ذنوبه الكذب فانظر وعده لك كيف أخلفه ولم يوف بما وعده وهذا ذنبٌ يجب أن نضيفه إلى ذنوبه ولكن نرجو أن تدخل إليه ثانياً وتنظر ما السبب في تأخيره ومنعه عن الخروج فإنا غير منكرين على طباعه الذميمة مثل هذا الأمر فإنه بلغ غاية القساوة ثم أن شماس توجه إليه ودخل عليه وقال: السلام عليك أيها الملك ما لي أراك قد أقبلت على شيءٍ يسير من اللذة وتركت الأمر الكبير الذي ينبغي الاعتناء به وكنت مثل الذي له ناقةٌ وهو منطو أعلى لبنها فألهاه حسن لبنها عن زمامها فأقبل يوماً على حلبها ولم يعتن بزمامها، فلما أحست الناقة بترك الزمام جذبت نفسها وطلبت الفضاء فصار الرجل فاقد اللبن والناقة مع أن ضرر ما لقيه أكثر من نفعه فانظر أيها الملك فيما فيه صلاح نفسك ورعيتك فأنه ليس ينبغي للرجل أن يديم الجلوس على باب المطبخ من أجل حاجته إلى الطعام ولا ينبغي له أن يكثر الجلوس مع النساء من أجل ميله إليهن وكما أن الرجل يبتغي من الطعام ما يدفع ألم الجوع ومن الشراب ما يدفع ألم العطش كذلك ينبغي للرجل العاقل أن يكتفي من هذه الأربعة والعشرين ساعةً بساعتين للنساء في كل نهار ويصرف الباقي في مصالح نفسه وفي مصالح رعيته ولا يطيل المكث مع النساء ولا الخلوة بهن أكثر من ساعتين فأن ذلك فيه مضرةٌ لنقله وبدنه لأنهن لا يأمرن بخيرٍ ولا يرشدن إليه ولا ينبغي أن يقبل منهن قولاً ولا فعلاً وقد بلغني أن أناساً كثيرةً هلكوا بسبب نسائهم فمنهم رجل هلك من اجتماعه بزوجته لكونه أطاعها فيما أمرته.

فقال الملك: وكيف كان ذلك؟ قال شماس: زعموا أن رجلاً كان له زوجة وكان يحبها وكانت مكرمةً عنده فكان يسمع قولها ويعمل برأيها وكان له بستان غرسه بيده جديداً فكان يأتي إليه كل يومٍ ليصلحه ويسقيه، فقالت له زوجته يوماً من الأيام: أي شيءٍ غرست في بستانك؟ فقال لها: كل ما تحبينه وتريدينه وها أنا مجتهد في إصلاحه وسقيه فقالت له: هل لك أن تأخذني وتفرجني فيه حتى أراه وأدعوا لك دعوةً صالحةً فإن دعائي مستجاب؟ فقال: نعم أمهليني حتى آتي إليك في غدٍ وأخذك فلما أصبح الرجل أخذ زوجته معه وتوجه بها إلى البستان ودخلا فيه وفي حال دخولهما نظر إليهما اثنان من الشبان على بعدٍ فقال بعضهما لبعضٍ: إن هذا الرجل زانٍ وإن هذه المرأة زانية وما دخلا هذا البستان إلا ليزنيا فيه فتبعاهما لينظرا ما يكون من أمرهما فأما الشابان فإنهما وقفا على جانب البستان وأما الرجل وزوجته فأنهما لما دخلا البستان واستقرا فيه قال الرجل لزوجته: ادعي لي الدعوى التي وعدتني بها فقالت: لا ادعو لك حتى تقوم بحاجتي التي تبتغيها النساء من الرجال فقال لها: ويحك أيتها المرأة أما كان مني في البيت كفايةً وههنا أخاف على نفسي من الفضيحة وربما أشغلتني عن مصالحي أما تخافين أن يرانا أحدٌ؟ فقالت: فلا نبال من ذلك لأننا لم نرتكب فاحشةً ولا حراماً وأما سقي هذا البستان ففيه مهلة وأنت قادرٌ على سقيه في أي وقت أردت ولم تقبل منه عذراً ولا حجة وألحت عليه في طلب النكاح فعند ذلك قام ونام معها فعندما أبصراهما الشابان المذكوران وثبا عليهما وأمسكاهما وقالا لهما: لا نطلقكما لأنكما من الزناة وإن لم نواقع المرأة نرفع أمرنا إلى الحاكم. فقال لهما: ويحكما إن هذه زوجتي وأنا صاحب البستان. فما سمعا له كلاماً بل نهضا على المرأة فعند ذلك صاحت واستغاثت بزوجها قائلةً له: لا تدع الرجال يفضحونني، فأقبل نحوهما وهو يستغيث، فرجع إليه واحدٌ منهما وضربه بخنجره فقتله وأتيا المرأة وفضحاها.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السادسة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الشاب لما قتل زوج المرأة رجع الشابان إلى المرأة وفضحاها وإنما قلنا لك هذا أيها الملك لتعلم أنه ليس ينبغي للرجل أن يسمع من المرأة كلاماً ولا يطيعها في أمرٍ ولا يقبل لها رأياً في مشور وإياك أن تلبس ثوب الجهل بعد ثوب الحكمة والعلم أو تتبع الرأي الفاسد بعد معرفتك للرأي الرشيد النافع فلا تتبع لذةً يسيرة مصيرها إلى الفساد ومآلها إلى الخسران الزائد الشديد. فلما سمع الملك ذلك من شماس قال له: ثاني غدٍ أخرج إليهم إن شاء الله تعالى فخرج شماس إلى الحاضرين من كبراء المملكة وأعلمهم بما قال الملك، فبلغ المرأة ما قاله شماس فدخلت على الملك وقالت له إنما الرعية عبيد للملك والآن رأيت أنك أيها الملك عبدٌ لرعيتك بحيث تهاجم وتخاف شرهم وهم إنما يريدون أن يختبروا باطنك فإن وجدوك ضعيفاً تهاونوا بك وإن وجدوك شجاعاً هابوك وكذلك يفعل وزراء السوء بملكهم، لأن حيلهم كثيرةٌ وقد أوضحت لك حقيقة كيدهم فإن وافقتهم على ما يريدون أخرجوك من أمرك إلى مرادهم ولم يزالوا ينقلونك من أمرٍ إلى أمرٍ حتى يوقعك في الهلكة ويكون مثلك مثل التاجر واللصوص. فقال الملك: وكيف كان ذلك قالت: بلغني أنه كان تاجرٌ له مالٌ كثيرٌ فانطلق بتجارة ليبيعها في بعض المدن.

فلما انتهى إلى المدينة اكترى له منزلاً ونزل فيه فنظره لصوصٌ كانوا يراقبون التجار لسرقة متاعهم فانطلقوا إلى منزل ذلك التاجر واحتالوا في الدخول عليه فلم يجدوا لهم سبيلاً إلى ذلك فقال لهم رئيسهم أنا أكفيكم أمره، ثم أنه انطلق فلبس ثياب الأطباء وجعل على عاتقه جراباً فيه شيء من الدواء وأقبل ينادي من يحتاج إلى طبيب حتى وصل إلى منزل ذلك التاجر فرآه جالساً على غداءه فقال له: أتريد لك طبيباً؟ فقال: لست محتاجاً إلى الطبيب، ولكن أقعد وكل معي فقعد اللص مقابله وجعل يأكل معه وكان ذلك التاجر جيد الأكل.

فقال اللص في نفسه: لقد وجدت فرصتي. ثم التفت إلى التاجر وقال له: لقد وجب علي نصيحتك لما حصل لي من إحسانك وليس يمكن أن أخفي عليك نصيحةً، وهو أني أراك رجلاً كثير الأكل وهذا سببه مرض في معدتك فإن لم تبادر بالسعي على دوائك وإلا آل أمرك إلى الهلاك فقال التاجر أن جسمي صحيح ومعدتي سريعة الهضم وأن كنت جيد الأكل فليس ببدني مرضٌ ولله الحمد والشكر فقال له اللص إنما ذلك بحسب ما يظهر لك وإلا فقد عرفت أن في باطنك مرضاً خفياً فأن أنت أطعتني فداوي نفسك فقال التاجر وأين أجد من يعرف دوائي فقال له اللص إنما المداوي هو الله ولكن الطبيب مثلي يعالج المريض على قدر إمكانه.

فقال له التاجر أرني الآن دوائي وأعطني منه شيئاً فأعطاه سفوفاً فيه صبرٌ كثيرٌ وقال له استعمل هذا في هذه الليلة فأخذه منه ولما كان الليل تعاطى منه شيء فرآه صبراً كريه الطعم فلم ينكر منه شيء فلما تعاطاه وجد منه خفةً في تلك الليلة فلما كانت الليلة الثانية جاء اللص ومعه دواءٌ صبراً أكثر من الأول فأعطاه منه شيء فلما تعاطاه أسهله تلك الليلة ولكنه صبر على ذلك ولم ينكره فلما رأى اللص أن التاجر اعتني بقوله واستأمنه على نفسه وتحقق أنه لا يخالفه انطلق وجاء بدواءٍ قاتلٍ وأعطاه له فأخذه منه التاجر وشربه فعندما شرب ذلك الدواء نزل ما كان في بطنه وتقطعت أمعاؤه وأصبح ميتاً فقام اللصوص وأخذوا جميع ما كان للتاجر وأني أيها الملك ما قلت لك هذا إلا لأجل أنك لا تقبل من هذا المخادع كلاماً فيلحقك أموراً تهلك بها نفسك فقال الملك صدقت فأنا لا أخرج إليهم.

فلما أصبح الصباح اجتمع الناس وجاؤوا إلى باب الملك وقعدوا أكثر النهار حتى يئسوا من خروجه، ثم رجعوا إلى شماس وقالوا له أيها الفيلسوف الحكيم الماهر أما ترى هذا الولد الجاهل لا يزداد إلا كذباً علينا وإن خراج الملك من يده واستبدال غيره به فيه الصواب فتنتظم بذلك أحوالنا وتستقيم أمورنا ولكن ادخل إليه ثالثاً واعلمه أنه لا يمنعنا من القيام عليه ونزع الملك منه إلا الإحسان والده إلينا وما أخذه علينا من العهود والمواثيق ونحن مجتمعون في غدٍ عن آخرنا بسلاحنا ونهدم باب هذا الحصن فأن خرج إلينا وصنع لنا ما نحب فلا بأس وإلا دخلنا عليه وقتلناه وجعلنا الملك في يد غيره. فانطلق الوزير شماس ودخل على الملك وقال له: أيها الملك المنهمك في شهواته ولهوه ما هذا الذي تصنعه بنفسك فيا هل ترى يغريك على هذا فأن كنت أنت الجاني على نفسك فقد زال ما نعهده لك من الصلاحية والحكمة والفصاحة فليت شعري من الذي حولك ونقلك من العلم إلى الجهل ومن الوفاء إلى الجفاء ومن اللين إلى القسوة ومن قبولك مني إلى إعراضك عني فكيف نصحتك ثلاث مراتٍ ولم تقبل نصيحتي وأشير عليك بالصواب وتخالف مشورتي، فأخبرني ما هذه الغفلة وما هذا اللهو ومن أغراك عليه اعلم أن أهل مملكتك قد تواعدوا على أنهم يدخلون عليك ويقتلونك ويعطون ملكك لغيرك.

فهل لك قوةٌ على جميعهم والنجاة من أيديهم أو تقدر على حياة نفسك بعد قتلها فأن كنت أعطيت هذا كله آمنت من قبلهم فلا حاجة لك بكلامي وإن كان حاجتك إلى الدنيا والملك، فأفق لنفسك واضبط ملكك وأظهر للناس قوة بأسك وأعلمهم بأعذارك فإنهم يريدون انتزاع ما في يدك وتسلميه إلى غيرك وقد عزموا على العصيان والمخالفة وصار دليل ذلك ما يلمونه من صغر سنك ومن انكبابك على اللهو والشهوات فأن الحجارة إذا طار مكثها في الماء متى أخرجت منه وضربت بعضها بعضاً تقدمت منها النار والآن رعيتك خلقٌ كثيرون يتوازرون عليك ويريدون نقل الملك منك إلى غيرك ويبلغون فيك ما يريدون من هلاكك ويكون مثلك مثل الثعلب والذئب، وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السابعة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الوزير شماساً قال للملك ويبلغون فيك ما يريدون من هلاكك ويكون مثلك مثل الثعلب والذئب فقال الملك وكيف كان ذلك قال زعموا أن جماعةً من الثعالب خرجوا ذات يوم يطلبون ما يأكلون فبينما هم يجولون في طلب ذلك وإذا هم بجملٍ ميت فقالوا في أنفسهم قد وجدنا ما نعيش به زمناً طويلاً ولكن نخاف أن يبغي بعضناً على بعض ويميل القوي بقوته على الضعيف فيهلك الضعيف منا فينبغي لنا أن نطلب حكماً يحكم بيننا ونجعل له نصيباً فلا يكون للقوي سلاطة على الضعيف.

فبينما هم يتشاورون في شأن ذلك وإذا بذئبٍ أقبل عليهم فقال بعضهم لبعضٍ أن أصاب رأيكم فاجعلوا هذا الذئب حكماً بيننا، لأنه أقوى الناس وأبوه سابقاً كان سلطاناً علينا ونحن نرجوا من الله أن يعدل بيننا ثم أنهم توجهوا إليه وأخبروه بما صار إليه رأيهم وقالوا لقد حكمناك بيننا لأجل أن تعطى لكل واحدٍ منا ما يقوته في كل يومٍ على قدر حاجته لئلا يبغي قوينا على ضعيفنا فيهلك بعضنا بعضاً فأجابهم الذئب إلى قولهم وتعاطي أمورهم وقسم عليهم في ذلك اليوم ما كفاهم.

فلما كان من الغد قال الذئب في نفسه إن قسمة هذا الجمل بين هؤلاء العاجزين لا يعود علي شيءٍ منها إلا الجزء الذي جعلوه لي وأن أكلته وحدي فهم لا يستطيعون لي ضراً مع أنه غنم لي ولأهل بيتي فمن الذي يمنعني عن أخذ هذا لنفسي ولعل الله مسببه لي بغير جميلة فالأحسن لي أن أختص به دونهم ومن هذا الوقت لا أعطيهم شيء فلما أصبح الثعالب جاؤوا إليه على العادة يطلبون منه قوتهم فقالوا له يا أبا سرحان أعطنا مؤنة يومنا.

فأجابهم قائلاً ما بقي عندي شيءٌ أعطيه لكم فذهبوا من عنده على أسوأ حال ثم قالوا إن الله أوقعنا في همٍ عظيم مع هذا الخائن الخبيث الذي لا يتقي الله ولا يخافه وليس لنا حولٌ ولا قوةٌ ثم قال بعضهم لبعضٍ إنما حمله على هذا الأمر ضرورة الجوع فدعوه اليوم يأكل حتى يشبع وفي غدٍ نذهب إليه، فلما أصبحوا توجهوا إليه وقالوا له يا أبا سرحان إنما وليناك علينا لأجل أن تدفع لكل واحدٍ منا قوته وتنصف لضعيفٍ من القوي وإذا فرغ تجتهد لنا في تحصيل غيره ونصير دائماً تحت كنفك ورعايتك وقد مسنا الجوع ولنا يومان ما أكلنا فأعطنا مؤنتنا وأنت في حلٍ من جميع ما تتصرف فيه من دون ذلك فلم يرد عليهم جواباً بل ازداد قسوةً فراجعوه فلم يرجع.

فقال بعضهم لبعضٍ ليس لنا حيلةٌ إلا أننا ننطلق إلى الأسد ونرمي أنفسنا عليه ونجعل له الجمل فإن أحسن لنا بشيءٍ منه كان من فضله وإلا فهو أحق به من هذا الخبيث ثم انطلقوا إلى الأسد وأخبروه بما حصل لهم مع الذئب، ثم قالوا له: نحن عبيدك وقد جئناك مستجيرين بك لتخلصنا من هذا الذئب ونصير لك عبيداً فلما سمع الأسد كلام الثعالب أخذته الحمية وغار الله تعالى ومضى معهم إلى الذئب فلما رأى الأسد مقبلاً طلب الفرار من قدامه فجرى الأسد خلفه وقبض عليه ومزقه قطعاً ومكن الثعالب من فريستهم فمن هذا عرفنا أنه لا ينبغي لأحد من الملوك أن يتهاون في أمر رعيته فأقبل نصيحتي وصدق القول الذي قلته لك وأعلم أن أباك قبل وفاته قد أوصاك بقبول النصيحة وهذا آخر كلامي معك والسلام.

فقال الملك إني سامعٌ منك وفي غد أن شاء الله تعالى أطلع إليهم فخرج شماس من عنده وأخبرهم بأن الملك قبل نصيحته ووعده في غدٍ أنه يخرج إليهم فلما سمعت زوجة الملك ذلك الكلام منقولاً عن شماس، وتحققت أنه لا بد من خروج الملك إلى الرعية أقبلت على الملك مسرعةً وقالت له ما أكثر تعجبي من إذعانك وطاعتك لعبيدك أما تعلم أن وزراءك هؤلاء عبيدٌ لك، فلأي شيءٍ رفعتهم هذه الرفعة العظيمة حتى أوهمتهم أنهم هم الذين أعطوك هذا الملك ورفعوك هذه الرفعة وإنهم أعطوك العطايا مع أنهم لا يقدرون أن يفعلوا معك أدنى مكروه فكان من حقك عدم الخضوع لهم بل من حقهم الخضوع لك وتنفيذ أمورك فكيف تكون مرعوباً منهم هذا الرعب العظيم وقد قيل إذا لم يكن قلبك مثل الحديد لا تصلح أن تكون ملكاً، وهؤلاء غرهم حلمك حتى تجاسروا عليك ونبذوا طاعتك مع أنه ينبغي أن يكونوا مقهورين على طاعتك مجبورين على الإنقياد إليك فإن أنت سارعت لقبول كلامهم وأهملتهم على ما هم فيه وقضيت لهم أدنى حاجة على غير مرادك ثقلوا عليك وطمعوا فيك وتصير لهم هذه عادةٌ فأن أطعتني ألا ترفع لأحد منهم شأناً ولا تقبل لأحد منهم كلاماً ولا تطمعهم في التجاسر عليك فتصير مثل الراعي.

فقال لها الملك وكيف كان ذلك قالت زعموا أنه كان رجلٌ راعي غنم وكان محافظاً على رعايتها فأتاه لص ذات ليلة يريد أن يسرق من غنمه شيء فرآه محافظاً عليها لا ينام ليلاً ولا يغفل نهاراً فصار يحاوله طول ليله فلم يظفر منه بشيءٍ فلما أعيته الحيلة انطلق إلى البرية واصطاد أسداً وسلخ جلده وحشاه تبنا، ثم أتى به ونصبه على محلٍ عالٍ في البرية بحيث يراه الراعي ويتحققه ثم أقبل اللص على الراعي وقال له إن هذا الأسد قد أرسلني إليك يطلب عشاه من هذه الغنم فقال له الراعي وأين الأسد فقال له اللص أرفع بصرك ها هو واقفٌ فرفع الراعي رأسه فرأى صورة الأسد فلما رآها ظن أنها أسدٌ حقيقيةٌ ففزع منها فزعاً شديداً.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثامنة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن قالت له أن الراعي لما رأى صورة الأسد ظن أنها أسدٌ حقيقي ففزع منها فزعاً شديداً وأخذه الرعب وقال للص يا أخي خذ ما شئت ليس عندي مخالفة وأخذ اللص من الغنم حاجته وازداد طمعه في الراعي بسبب شدة خوفه فصار كل قليل يأتي إليه ويرعبه ويقول له إن الأسد يحتاج إلى كذا أو قصده أن يفعل كذا ثم يأخذ من الغنم كفايته ولم يزل اللص مع الراعي على هذه الحالة حتى أفنى غالب الغنم وإنما قلت لك هذا الكلام أيها الملك لئلا يغتر كبراء دولتك هؤلاء بحلمك ولين جانبك فيطمعوا فيك والرأي السديد أن يكون موتهم أقرب مما يفعلونه.

فقبل الملك قولها وقال أني قبلت منك هذه النصيحة ولست مطيعاً لمشورتهم ولا خارجاً إليهم فلما أصبح الصباح اجتمع الوزراء وأكابر الدولة ووجهاء الناس وحمل كل واحدٍ منهم سلاحه معه وتوجهوا إلى بيت الملك ليهجموا عليه ويقتلوه ويولوا غيره فلما وصلوا إلى بيت الملك ليهجموا عليه ويقتلوه ويولوا غيره تقربوا قليلاً من المنزل وسألوا البواب أن يفتح لهم فلم يفتح لهم فأرسلوا ليحضروا نار فيحرقوا بها الأبواب ثم يدخلوا فسمع البواب منهم هذا أن الكلام فانطلق بسرعةٍ وأعلم الملك أن الخلق مجتمعون على الباب وقال أنهم سألوني أن أفتح لهم فأبيت فأرسلوا ليحضروا نار فيحرقوا بها الأبواب ثم يدخلوا عليك ويقتلوك فماذا تأمرني. فقال الملك في نفسه إني وقعت في الهلكة العظيمة ثم أرسل خلف المرأة فحضرت فقال لها أن شماساً لم يخبرني بشيءٍ إلا وقد وجدته صحيحاً وقد حضر الخاص والعام من الناس يريدون قتلي وقتلك ولما لم يفتح لهم البواب أرسلوا ليحضروا نار فيحرقون الأبواب فيحترق البيت ونحن داخله فماذا تشيرون علينا فقالت له المرأة: لا بأس عليك ولا يهولنك أمرهم، فأن هذا الزمان يقوم فيه السفهاء على ملوكهم.

فقال لها الملك فما تشيرين علي به لأفعله وما الحيلة في هذا الأمر فقالت له الرأي عندك أنك تعصب رأسك بعصابةٍ وتظهر أنك مريض ثم ترسل إلى الوزير شماس فيحضر إليك ويرى حالك الذي أنت فيه فإذا حضر فقل له قد أردت الخروج إلى الناس في هذا اليوم فمنعني هذا المرض فأخرج إلى الناس وأخبرهم بما أنا فيه وأخبرهم أني في غدٍ أخرج إليهم وأقضي حوائجهم وانظر في أحوالهم ليطمئنوا ويسكن غيظهم وإذا أصبحت فاستدع بعشرة من عبيد أبيك ويكونون سامعين لقولك طائعين لأمرك كاتمين لسرك حافظين لودك ثم أوقفهم على رأسك وأمرهم أن لا يمكنوا أحداً من الدخول عليك إلا واحدٍ بعد واحدٍ فإذا دخل واحدٌ فقل لهم خذوه واقتلوه وإذا اتفقوا معك على ذلك فأصبح ناصباً كرسيك في ديوانك وأفتح بابك إذا رأوك فتحت الباب طابت نفوسهم وأتوك بقلبٍ سليم واستأذنوا في الدخول عليك فائذن لهم في الدخول واحداً بعد واحدٍ كما قلت لك وافعل بهم مرادك ولكن ينبغي أن تبدأ بقتل شماس الكبير أولهم فإنه هو الوزير الأعظم وهو صاحب الأمر فأقتله أولاً.

ثم بعد ذلك أقتل الجميع واحداً بعد واحدٍ ولا تبق منهم من تعرف أنه ينكث لك عهداً وكذلك كل من تخاف صولته فإنك إذا فعلت بهم ذلك لا يبقى لهم قوة عليك وتستريح منهم الراحة الكلية ويصفو لك الملك وتعمل ما تحب واعلم أنه لا حيلة لك أنفع من هذه الحيلة فقال لها الملك: إن رأيك هذا سديدٌ وأمرك رشيدٌ فلا بد أن أعمل ما ذكرت ثم أمر بعصابة فشد بها رأسه وتضاعف وأرسل إلى شماس فلما حضر بين يديه قال له شماس: قد علمت أني لك ولرأيك مطيعٌ وأنت كالأخ والوالد دون كل أحد وتعرف أني أقبل منك جميع ما أمرتني به وقد كنت أمرتني بالخروج إلى الرعية والجلوس لأحكامهم وتحققت أنها نصيحة منك لي، وقد أردت الخروج إليهم بالأمس فعرض لي هذا المرض ولست أستطيع الجلوس، وقد بلغني أن أهل المملكة متنغصون من عدم خروجي إليهم وهموا أن يفعلوا في ما لا يليق من شرهم فأنهم غير عالمين بما أنا فيه من المرض فأخرج إليهم وأعلمهم بحالي وما أنا فيه واعتذر إليهم عني فأني تابع لما يقولون وفاعل ما يحبون فصلح لهم هذا الأمر واضمن لهم عني ذلك فأنك نصيح لي ولوالدي من قبلي وعادتك الإصلاح بين الناس وإن شاء الله تعالى في غد أخرج إليهم وفعل مرضي يزول عني في هذه الليلة ببركة صالح نيتي وما أضمرته لهم من الخير في سريرتي فسجد شماس لله ودعا للملك وقبل يديه ورجليه وفرح بذلك وخرج إلى الناس وأخبرهم بما سمعه من الملك ونهاهم عما أرادوه، وأعلمهم بالعذر وسبب امتناع الملك عن الخروج وأخبرهم أنه وعده في غد بالخروج إليهم وأنه يصنع لهم ما يحبون فانصرفوا عند ذلك إلى منازلهم.

وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة عشرة بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن شماساً خرج إلى الدولة وقال لهم: إن الملك في غدٍ يخرج إليكم ويصنع لكم ما تحبون فانصرفوا إلى منازلهم هذا ما كان من أمرهم. وأما ما كان من أمر الملك فإنه بعث إلى العشرة عبيد الجبابرة الذين اختارهم من جبابرة أبيه وكانوا ذوي عزمٍ جليدٍ وبأسٍ شديدٍ وقال لهم: قد علمتم ما كان لكم عند والدي من الحظوة ورفعة الشأن والإحسان إليكم مع لطفه بكم وإكرامه إياكم فأنا أنزلهم بعده عندي في درجة أرفع من تلك الدرجة وسأعرفكم سبب ذلك وأنتم في أمان الله مني ولكن أسألكم عن مسألة هل تكونون معي فيها طائعين لأمري فيما أقوله كاتمين لسري عن جميع الناس ولكم مني الإحسان فوق ما تريدون حيث مثلتم أمري فأجابه العشرة من فم واحدٍ وكلامٍ متواردٍ قائلين: جميع ما تأمرنا به يا سيدنا نحن به عاملون ولا نخرج عما تشير به علينا مطلقاً وأنت لي أمرنا. فقال لهم: أحسن الله لكم فأنا الآن أعرفكم سبب اختصاصكم بمزيد الإكرام عندي أنكم قد علمتم ما كان يفعله أبي بأهل مملكته من الإكرام وما عاهدهم عليه من أمري وإقرارهم له بأنهم لا ينكثون لي عهداً أو لا يخالفون لي أمر وقد نظرتم ما كان منهم بالأمس حي اجتمعوا جميعاً حولي يريدون قتلي وأنا أريد أن أصنع بهم أمراً وذلك أني نظرت ما كان منهم بالأمس فرأيت أنه لا يزجرهم عن مثله إلا نكالهم فلا بد أن أوكلكم بقتل من أشير لكم بقتله سراً حتى أدفع الشر والبلاء عن بلادي بقتل أكابرهم ورؤسائهم وطريقة ذلك أني أقعد في هذا المقعد في هذه المقصورة في غدٍ وآذن لهم بالدخول علي واحداً بعد واحدٍ وإن يدخلوا من بابٍ ويخرجوا من بابٍ آخر فقفوا أنتم العشرة بين يدي فاهمين لإشارتي وكلما يدخل واحدٌ فخذوه وأدخلوا به هذا البيت وأقتلوه وأخفوا جثته، فقالوا: سمعاً لقولك وطاعةً لأمرك، فعند ذلك أحسن إليهم وصرفهم وبات، فلما أصبح طلبهم وأمر بنصب السرير ثم لبس ثياب الملك وأخذ في يده كتاب القضاء وأمر بفتح الباب ففتح وأوقف العشرة عبيد بين يديه ونادى من كان له حكومة فليحضر إلى بساط الملك فأتى الوزراء والقواد والحجاب ووقف كل واحدٍ في مرتبته ثم أمر لهم بالدخول واحداً بعد واحدٍ فدخل شماس الوزير أولاً كما هي عادة الوزير الأكبر. فلما دخل واستقر قدام الملك لم يشعر إلا والعشرة عبيد محتاطون به وأخذوه وأدخلوه البيت وقتلوه وأقبلوا على باقي الوزراء ثم العلماء ثم الصلحاء فصاروا يقتلونهم واحداً بعد واحدٍ حتى فرغوا من الجميع، ثم دعا بالجلادين وأمرهم بحط السيف فيمن بقي من أهل الشجاعة وقوة البأس فلم يتركوا أحداً ممن يعرفون أن له شهامةً إلا وقتلوه ولم يتركوا إلا سفلة الناس ورعاعهم ثم طردهم ولحق كل واحدٍ منهم بأهله.
ثم بعد ذلك اختلى الملك بلذاته وأعطى نفسه شهواتها واتبع البغي والجور والظلم حتى سبق من تقدمه من أهل الشر، وكانت بلاد هذا الملك معدن الذهب والفضة والياقوت والجواهر وجميع من حوله من الملوك يحسدونه على هذه المملكة ويتوقعون له البلاء فقال في نفسه بعض الملوك المجاورين له أني ظفرت بما كنت أريد من أخذ هذه المملكة من يد هذا الولد الجاهل بسبب ما حصل من قتله لأكابر دولته وأهل الشجاعة والنجدة الذين كانوا في أرضه فهذا هو وقت الفرصة وانتزاع ما في يده لكونه صغيراً ولا درايةً له بالحرب ولا رأي له ولم يبق عنده من يرشده ولا من يعضده، فأنا اليوم أفتح معه باب الشر وهو أني أكتب له كتاباً وأبعث به فيه وأبكته على ما حصل منه وأنظر ما يكون من جوابه. فكتب له مكتوباً مضمونه: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد فقد بلغني ما فعلت بوزرائك وعلمائك وجبابرتك وما أوقعت نفسك فيه من البلاء حتى لم يبق لك طاقة ولا قوة على دفع من يصول عليك حين طغيت وأفسدت وأن الله قد أعطاني النصر عليك وظفرني بك فاسمع كلامي وأمتثل أمري. أن لي قصراً معيناً في وسط البحر وأن لم تقدر على ذلك فأخرج من بلادك وفز بنفسك فإني باعثٌ إليك من أقصى الهند اثني عشر كردوساً من كردوس اثنا عشر ألف مقاتل فيدخلون بلادك وينهبون أموالك ويقتلون رجالك ويسبون حريمك وأجعل قائدهم بديعاً وزيري وآمره أن يرسخ عليها محاصر إلى أن يملكها، وقد أمرت هذا الغلام المرسل إليك أنه لا يقيم عندك غير ثلاثة أيامٍ فأن امتثلت أمري نجوت وإلا أرسلت إليك ما ذكرته لك. ثم ختم الكتاب وأعطاه للرسول فسار به حتى وصل إلى تلك المدينة ودخل على الملك وأعطاه الكتاب، فلما قرأه الملك ضعفت قوته وضاق صدره وألتبس عليه أمره وتحقق الهلاك ولم يجد من يستشيره ولا من يستعين به ولا من ينجده، فقام ودخل على زوجته وهو متغير اللون فقالت له: ما شأنك أيها الملك؟ فقال لها: لست اليوم بملك ولكني عبدٌ للملك، ثم فتح الكتاب وقرأه عليها فلما سمعته أخذت في البكاء والنحيب وشقت ثيابها، فقال لها الملك: هل عندك شيءٌ من الرأي والحيلة في هذا الأمر العسير؟ فقالت له: وما عند النساء من الحيلة في الحروب والنساء لا قوة لهن ولا رأي لهن وإنما القوة والرأي والحيلة للرجال في مثل هذا الأمر. فلما سمع الملك منها هذا الكلام حصل له غاية الندم والتأسف والكآبة على ما فرط منه في حق جماعته ورؤساء دولته. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. وفي الليلة العشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك لما سمع من زوجته ذلك الكلام حصل له غاية الندم والتأسف على ما فرط منه من قتل وزرائه وأشراف رعيته وتمنى الموت لنفسه قبل أن يرد عليه مثل هذا الخبر الفظيع، ثم قال لنسائه: لقد وقع لي منكن ما وقع للدراج مع السحالف، فقلن له: وكيف كان ذلك؟ فقال الملك: زعموا أن سحالف كانت في جزيرةٍ من الجزائر وكانت تلك الجزيرة ذات أشجارٍ وأثمارٍ وأنهارٍ، فاتفق أن دراجاً اجتاز بها يوماً وقد أصابه الحر والتعب، فلما أضر به ذلك حط من طيرانه في تلك الجزيرة التي بها تلك السحالف، فلما رأى السحالف التجأ إليها ونزل عندها وكانت السحالف ترعى في جهات الجزيرة ثم ترجع إلى مكانها، فلما رجعت من مسارحها إلى مكانها، رأت الدراج فيه فلما رأته أعجبها وزينه الله لها فسبحت خالقها وأحبت هذا الدراج حباً شديداً وفرحت به ثم قال بعضها لبعضٍ: لا شك أن هذا من أحسن الطيور فصارت كلها تلاطفه وتجنح إليه فلما رأى منها عين المحبة مال إليها واستأنس بها وصار يطير إلى أية جهة أراد وعند المساء يرجع إلى المبيت عندها فإذا أصبح الصباح يطير إلى حيث أراد وصارت عادته واستمر على هذه الحال مدةً من الزمان فلما رأت السحالف أن غيابه عنها يوحشها وتحققت أنها لا تراه إلا في الليل وإذا أصبح طار مبادراً ولا تشعر به مع زيادة حبها له. قال بعضهم لبعضٍ: إن هذا الدراج قد أحببناه وصار لنا صديقاً وما بقي لنا قدرةٌ على فراقه فما يكون من الحيلة الموصلة إلى إقامته عندنا دائماً لأنه إذا طار يغيب عنا النهار كله ولا نراه إلا في الليل، فأشارت عليهن واحدةٌ قائلةٌ: استريحوا يا أخوتي وأنا أجعله لا يفارقنا طرفة عينٍ، فقال لها الجميع: إن فعلت ذلك صرنا لك كلنا عبيداً، فلما حضر الدراج من مسرحه وجلس بينهم تقربت منه السلحفة المحتالة ودعت له وهنأته بالسلامة وقالت له: يا سيدي اعلم أنه قد رزقك منا المحبة وكذلك أودع قلبك محبتنا وصرت لنا في هذا القفر أنيساً وأحسن أوقات المحبين إذا كانوا مجتمعين والبلاء العظيم في البعد والفراق ولكنك تتركنا عند طلوع الفجر ولم تعد إلينا إلا عند الغروب فيصير عندنا وحشةٌ زائدةٌ وقد شق علينا كثيراً ونحن في وجدٍ عظيمٍ لهذا السبب. فقال لها الدراج: نعم أنا عندي محبةٌ لكم واشتياقٌ عظيمٌ إليكم زيادة على ما عندكن وفراقكن ليس سهلاً عندي ولكن ما بيدي حيلة في ذلك لكوني طيراً ذو أجنحةٍ فلا يمكنني المقام معكن دائماً لأن هذا ليس من طبعي فأنا الطير ذا الأجنحة ليس له مستقراً إلا في الليل لأجل النوم وإذا أصبح طار وسرح في أي موضعٍ أعجبه. فقالت له السلحفة: صدقت ولكن ذو الأجنحة في غالب الأوقات لا راحة له ولكونه لا يناله من الخير ربع ما يحصل له من المشقة وغاية المقصود للشخص الرفاهية والراحة ونحن قد جعل الله بيننا وبينك المحبة والألفة ونخشى عليك ممن يصطادك من أعدائك فتهلك ونحرم من رؤية وجهك، فأجابها الدراج قائلاً: صدقت ولكن ما عندك من الرأي والحيلة في أمري؟ فقالت له: الرأي عندي أن تنتف سواعدك التي تسرع بطيرانك وتقعد عندنا مستريحاً وتأكل من أكلنا وتشرب من شربنا في هذه المسرحة الكثيرة الأشجار اليانعة الأثمار ونقيم نحن وأنت في هذا الموضع الخصب ويتمتع كل منا بصاحبه. فمال الدراج إلى قولها وقصد الراحة لنفسه ثم نتف ريشةً واحدةً بعد واحدةٍ حسب ما استحسنه من رأي السلحفة واستقر عندهن عائشاً معهن ورضي باللذة اليسيرة والطرب الزائل. فبينما هم على تلك الحالة وإذا بابن عرس قد مر عليه فرمقه بعينيه وتأمله فرآه مقصوص الجناح لا يستطيع النهوض، فلما رآه على تلك الحالة فرح به فرحاً شديداً وقال في نفسه: إن هذا الدراج سمين اللحم قليل الريش، ثم دنا منه ابن عرس وافترسه فصاح الدراج وطلب النجدة من السحالف فلم تنجده بل تباعدن عنه وانكمش في بعضهن لما رأينا ابن عرس قابضاً عليه وحين رأينا ابن عرس يعذبه خنقهن البكاء عليه. فقال لهن الدراج: هل عندكن شيءٌ غير البكاء؟ فقلن له: يا أخانا ليس لنا قوةٌ وطاقةٌ ولا حيلةٌ في أمر ابن عرس فحزن الدراج عند ذلك وقطع الرجاء من حياة نفسه وقال لهن: ليس لكن ذنبٌ إنما الذنب لي حيث أطعتكن ونتفت أجنحتي التي أطير بها فأنا استحق الهلاك لمطاوعتي لكن لا ألومكن في شيءٍ وأنا الآن لا ألومكن أيتها النساء بل ألوم نفسي وأؤدبها حيث لم أتذكر أنكن الشهوة التي حصلت من أبينا آدم لأجلها خرج ونسيت أنكن أصل كل شرٍ فأطعتكن بجهلي وخطأ رأيي وسوء تدبيري وقتلت وزرائي وحكام مملكتي الذين كانوا نصحاء لي في الأمور وكانوا عدتي وقوتي على كل أمرٍ أهمني فأنا الآن لا أجد عوضاً عنهم ولا أرى أحداً يقوم مقامهم وقد وقعت في الهلاك العظيم. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. وفي الليلة الواحدة والعشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك لام نفسه وقال: أنا الذي أطعتكن بجهلي وقتلت وزرائي ولم أجد عوضاً عنهم يقوم مقامهم وإن لم يفتح الله علي بمن له رأيٌ سديدٌ يرشدني إلى ما فيه خلاصي ووقعت في الهلكة العظيمة ثم أنه قام ودخل مرقده بعد أن نعى الوزراء والحكماء قائلاً يا ليت هؤلاء الأسود عندي في هذا الوقت ولو ساعةً واحدةً حتى اعتذر إليهم وأنظرهم وأشكوا إليهم أمري وما حل بي بعدهم ولم يزل غريقاً في بحر الهم طول نهاره لا يأكل ولا يشرب فلما جن عليه الليل وغير لباسه ولبس ثياباً رديئةً وتنكر وخرج يسبح في المدينة لعله يسمع من أحدٍ كلمة يرتاح بها فبينما هو يطوف الشوارع وإذا هو بغلامين مختليين بأنفسهما جالسين بجانب حائط وهما مستويان في السن عمر كل واحد منهما اثنتا عشر سنةً فسمعهما يتحدثان مع بعضهما فدنا منهما الملك بحيث يسمع كلامهما ويفهمه فسمع واحدٌ منهما يقول للأخر: اسمع ما حكاه لي والدي ليلة أمس من أجل ما وقع له في زرعه ويبسه قبل أوانه بسبب عدم المطر وكثرة البلاء الحاصل في هذه المدينة. فقال له الأخر: أتعرف ما سبب هذا البلاء له؟ قال: لا فإن كنت تعرفه أنت فأذكره لي فأجابه قائلاً: نعم أعرفه وأخبرك به. اعلم أن بعض أصحاب والدي قال لي: إن ملكنا قتل وزراءه وعظماء دولته من غير ذنبٍ جنوه بل من أجل حبه للنساء وميله إليهن وأن الوزراء نهوه عن ذلك فلم ينته وأمر بقتلهم طاعةً لنسائه حتى أنه قتل شماساً وزيره ووزير والده من قبله وكان صاحب مشورته ولكن الخوف تنظر ما يفعل الله به بسبب ذنوبهم فسينتقم لهم منه فقال الغلام: وما عسى أن يفعل الله به بعد هلاكهم؟ قال له: اعلم أن ملك الهند الأقصى قد استخف بملكنا وبعث إليه بكتاب يوبخه فيه ويقول له: ابني لي قصراً في وسط البحر وإن لم تفعل ذلك فأنا أرسل إليك اثني عشر كردوساً كل كردوس فيه اثنا عشر ألف مقاتلٍ واجعل قائد هذه العساكر بديعاً وزيري فيأخذ ملكك ويقتل رجالك ويسبيك مع حريمك فلما جاء رسول ملك الهند الأقصى بهذا الكتاب أمهله ثلاثة أيامٍ واعلم يا أخي أن ذلك الملك الجبار عنيدٌ ذو قوة وبأس شديد وفي مملكته خلق كثيرٌ وأن لم يحتل ملكنا فيما يمنعه وقع في الهلكة وبعد هلاك ملكنا يأخذ هذا الملك أرزاقنا ويقتل رجالنا ويسبي حريمنا. فلما سمع الملك منهما هذا الكلام زاد اضطراباً ومال إليهما وقال في نفسه إن هذا الكلام لحكيمٌ لكونه أخبر عن شيء لم يبلغه مني فأن الكتاب الذي جاء من ملك أقصى الهند عندي والسر معي ولم يطلع أحدٌ على هذا الخبر غيري فكيف علم هذا الغلام به ولكن أنا ألتجيء إليه وأكلمه وأسأل الله أن يكون خلاصنا على يديه ثم أن الملك دنا من الغلام بلطفٍ وقال له: أيها الولد الحبيب ما هذا الذي ذكرته من أجل ملكنا فأنه قد أساء كل الإساءة في قتل وزرائه وكبراء دولته لكنه في الحقيقة قد أساء لنفسه ورعيته أنت صدقت فيما قلته ولكن عرفني أيها الولد من أين عرفت أن ملك الهند الأقصى كتب إلى ملكنا كتاباً ووبخه فيه وقال له هذا الكلام الصعب الذي قلته؟ قال له هذا الغلام: قد علمت هذا من قول القدماء أنه ليس يخفى على الله خافيةٌ والخلق من بني آدم فيهم روحانية تظهر لهم الأسرار الخفية. فقال له: صدقت يا ولدي ولكن هل لملكنا حيلةٌ وتدبيرٌ يدفع به عن نفسه وعن مملكته البلاء العظيم؟ فأجاب الغلام قائلاً: نعم إذ أرسل إلي وسألني ماذا يصنع ليدفع به عدوه وينجو من أخبرته بما فيه نجاته قوة الله تعالى قال له الملك: ومن يعلم الملك بذلك حتى يرسل إليك ويدعوك فأجاب الغلام قائلاً: إني سمعت عنه أنه يفتش على أهل الخبرة والرأي الرشيد وإذا أرسل إلي سرت معهم إليه وعرفت بما فيه صلاحه ودفع البلاء عنه وأن أهمل هذا الأمر العسير اشتغل بها ودفع نسائه وأردت أن أعلمه أبما فيه حياته وتوجهت إليه من تلقاء نفسي فإنه يأمر بقتلي مثل أولئك الوزراء وتكون معرفتي به سبباً لهلاكي وتستقل الناس بي ويستنقصون عقلي وأكون من مضمون قول من قال: من كان علمه أكثر من عقله هلك ذلك العالم. فلما سمع الملك كلام الغلام تحقق حكمته وتبين فضيلته أن النجاة تحصل له ولرعيته على يديه فعند ذلك أعاد الملك الكلام على الغلام وقال له: من أين أنت؟ وأين بيتك؟ فقال له الغلام: إن هذه الحائط توصل إلى بيتنا فتعهد الملك ذلك المكان ثم أنه ودع الغلام ورجع إلى مملكته مسروراً فلما استقر في بيته لبس ودعا بالطعام والشراب ومنع عنه النساء وأكل وشرب وشكر الله تعالى وطلب منه النجاة والمعونة والمغفرة والعفو عما فعل بعلماء دولته ورؤسائهم ثم تاب إلى الله توبةً خالصةً وافترض على نفسه الصوم والصلاة الكثيرة بالنذر ودعا بأخذ غلمانه الخواص ووصف له مكان الغلام وأمره أن ينطلق إليه ويحضره بين يديه برفقٍ، فمضى ذلك العبد إلى الغلام وقال له: الملك يدعوك لخيرٍ يصل إليك من قبله ويسألك سؤالاً ثم تعود في خير إلى منزلك فأجاب الغلام قائلاً: وما حاجة الملك التي دعاني من أجلها؟ قال له الغلام: إن حاجة مولاي التي دعاك من أجلها هي سؤال وجواب فقال له الغلام: ألف سمعٍ وألف طاعةٍ لأمر الملك ثم سار معه حتى وصل إليه فلما صار بين يديه سجد لله ودعا للملك بعد أن سلم عليه فرد الملك عليه السلام وأمره بالجلوس فجلس. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. وفي الليلة الثانية والعشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما جاء إلى الملك وسلم عليه أمره بالجلوس فجلس فقال له: هل تعرف من تكلم معك بالأمس؟ قال الغلام: نعم قال له: فأين هو؟ فأجابه بقوله: هو الذي يكلمني في هذا الوقت فقال له الملك: لقد صدقت أيها الحبيب ثم أمر الملك بوضع كرسي بجانب كرسيه وأجلسه عليها وأمر بإحضار أكل وشرب قم امتزجا في الحديث إلى أن قال للغلام: إنك أيها الوزير حدثتني بالأمس حديثاً وذكرت فيه أن معك حيلة تدفع بها عنا كيد ملك الهند فما هي الحيلة وكيف التدبير في دفع شره فأخبرني لكي أجعلك أول من يتكلم معي في الملك وأصطفيك وزير إلي وأكون تابعاً لرأيك في كل ما أشرت به علي وأجيزك جائزةً سنيةً. قال الغلام له: جائزتك لك أيها الملك والملك والمشورة والتدبير عند نسائك اللاتي أشرن عليك بقتل والدي شماس مع بقية الوزراء فلما سمع الملك منه ذلك خجل وتنهد وقال أيها الولد الحبيب وهل شماس والدك كما ذكرت؟ فأجابه الغلام قائلاً: إن شماساً والدي حقا وأنا ولده صدقاً فعند ذلك خشع الملك ودمعت عيناه واستغفر الله وقال: أيها الغلام أني فعلت ذلك بجهلي وسوء تدبير النساء وكيدهن أسألك أن تكون متسامحاً لي وأني جاعلك في موضع أبيك وأعلى مقاماً من مقامه وإذا زالت هذه النقمة النازلة بنا طوقتك بطوق الذهب وأركبتك أعز مركوب وأمرت المنادي أن ينادي قدامك قائلاً: هذا الولد العزيز صاحب الكرسي الثاني بعد الملك وأما ما ذكرت من أمر النساء فإني أضمرت الإنتقام منهن ورجليه في الوقت الذي يريده الله تعالى فأخبرني بما عندك من التدبير ليطمئن قلبي؟ فأجابه الغلام قائلاً: أعطني عهداً أنك لا تخالف رأيي فيما أذكر لك وأني أكون مما أخشاه في أمان. فقال له الملك: هذا عهد الله بين وبينك أني لا أخرج عن كلامك وأنك عندي صاحب المشورة ومهما أمرتني به فعلته والشاهد بيني وبينك على ما أقوله هو الله تعالى فعند ذلك انشرح صدر الغلام واتسع عنده مجال الكلام، فقال: أيها الملك إن التدبير والحيلة عندي أنك تنظر الوقت الذي يحضر لك فيه الساعي طالب الجواب بعد المهلة التي أمهلته إياها فإذا حضر بين يديك وطلب الجواب فأدفعه عنك وأمهله إلى يومٍ آخر فعند ذلك يعتذر إليك أن ملكه حدد عليه أياماً معلومةً فيراجعك في كلامك فأطرحه وأمهله إلى يوم آخر ولا تعين له ذلك اليوم فيخرج من عندك غضبان ويتوجه إلى وسط المدينة ويتكلم جهراً بين الناس ويقول: يا أهل المدينة أني ساعي ملك الهند الأقصى وهو صاحب بأسٍ شديدٍ وعزمٍ يلين له الحديد قد أرسلني بكتابٍ إلى ملك هذه المدينة وجدد لي أياما وقال لي أن لم تحضر عقب الأيام التي حددتها لك حلت بك نقمتي وها أنا جئت إلى ملك هذه المدينة وأعطيته الكتاب فلما قرأه أمهلني أيام ثم لم يعطني ذلك الكتاب فأجتبه إلى ذلك لطفاً به ورعاية لخاطره وقد مضت الثلاثة أيام وأتيت أطلب من الجواب فأمهلني إلى يومٍ آخر وأنا ليس عندي صبراً، فها أنا منطلقٌ إلى سيدي ملك الهند الأقصى وأخبره بما وقع لي وأنتم أيها القوم شاهدون بيني وبينه فعند ذلك يبلغك كلامه المرسل إليه وأحضره بين يديك وكلمه بلطفٍ وقل له: أيها الساعي لإتلاف نفسه أي حملك على ملامتنا بين رعيتنا لقد استحقيت منا التلف عاجلاً ولكن قالت القدماء: العفو من شيم الكرام وأعلم أن تأخير الجواب عنك ليس عجزاً منا وإنما هو لزيادة أشغالنا وقلة تفرغنا لكتابة جواب ملككم ثم أطلب الكتاب واقرأه ثانياً. وبعد أن تفرغ من قراءته أكثر من الضحك وقل له: هل معك كتاب غير هذا الكتاب فنكتب جواباً له أيضاً فيقول لك: معي كتاب غير هذا الكتاب فأعد عليه بالقول ثانياً فيقول لك: ليس معي غيره أصلاً فقل له: إن ملككم هذا معدوم العقل حيث ذكر في هذا الكتاب كلاماً يريد به تقويم نفوسنا لأجل أن نتوجه بعسكرنا إليه فنغزو بلاده ونأخذ مملكته ولكن لا تؤاخذه في هذه المرة على إساءة أدبه بهذا الكتاب لأنه قاصر العقل ضعيف الحزم فالمناسب لمقدرتنا أننا ننذره ولا نحذره من أن يعود لمثل هذه الهذيانات فإن خاطر بنفسه وعاد إلى مثلها استحق البلاء عاجلاً وآمن أن الذي أرسلك جاهلاً أحمق غير مفكر في العواقب وليس له وزير عاقل سديد الرأي يستشيره ولو كان عاقلاً لاستشار وزيراً قبل أن يرسل إلينا مثل هذا الكلام السخرية ولكن له عندي جواب مثل كتابه وأزيد وأنا أدفع كتابه لبعض صبيان الكتب ليجيبه ثم أرسل إلي واطلبني فإذا حضرت بين يديك فأذن لي بقراءة الكتاب ورد جوابه. فعند ذلك انشرح صدر الملك واستحسن رأي الغلام وأعجبته حيلته فأنعم عليه وخوله رتبة والده وصرفه مسروراً فلما انقضت الثلاثة أيام التي جعلها مهلةً للساعي جاء الساعي ودخل على الملك وطلب الجواب فأمهله الملك إلى يوم آخر فخرج البساط وتكلم بكلامٍ غير لائق مثل ما قال الغلام ثم خرج إلى السوق وقال: يا أهل هذه المدينة إني رسول ملك الهند الأقصى إلى ملككم جئته برسالةٍ وهو يماطلني في جوابها وقد انقضت المدة التي حددها لي ملكنا ولم يبق لملككم عذرٌ فأنتم تكونون الشهداء على ذلك. فلما بلغ الملك هذا الكلام أرسل إلى ذلك الساعي وأحضره بين يديه وقال له: أيها الساعي في إتلاف نفسه ألست ناقلاً كتاباً من ملك إلى ملك بينهما أسرار فكيف تخرج بين الناس وتظهر أسرار الملوك على العامة فقد استحقيت منا القصاص ولكن نحن نتحل ذلك لأجل عود جوابك لهذا الملك الأحمق والأنسب أن لا يرد له جواباً عنا إلا أقل صبيان المكتب ودعا حضور ذلك الغلام فحضر ولما دخل على الملك والساعي حضر سجد لله ودعا للملك بدوام العز والبقاء فعند ذلك رمى الملك الكتاب للغلام وقال له: اقرأ هذا الكتاب واكتب جوابه بسرعة فأخذ الغلام الكتاب وقرأه وتبسم بالضحك وقال للملك: هل أرسلت خلفي لأجل جواب هذا الكتاب؟ فقال له: نعم فأجاب بمزيد السمع والطاعة وأخرج الدواة والقرطاس وكتب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. وفي الليلة الثالثة والعشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الغلام لما أخذ الكتاب وقرأه أخرج في الوقت دواةً وقرطاساً وكتب بسم الله الرحمن الرحيم السلام على من بالأمان ورحمة الرحمن أما بعد فأني أعلمك أيها المدعو ملكاً كبيراً اسماً لا رسماً أنه قد وصل إلينا كتابك وقرأناه وفهمنا ما فيه من الخرافات وغريب الهذيانات فتحققنا جهلك وبغيك علينا وقد مددت يديك إلى ما لا تقدر عليه ولولا أن الرأفة أخذتنا على خلق الله والرعية لما تأخرنا عنك وأما رسولك فأنه خرج إلى السوق ونشر أخبار كتابك على الخاص والعام فيستحق منا القصاص ولكن أبقيناه رحمةً منا له لكونه معذوراً معك ولم نترك قصاصة وقاراً لك. فأما ما ذكرته في كتابك من قتلي لوزرائي أو علمائي وكبار مملكتي ذلك حق ولكن لسبب قام عندي وما قتلت من العلماء واحداً إلا وعندي من جنسه ألف أعلم منه وأفهم وأعقل وليس عندي طفلٌ إلا وهو ممتلئ من العلوم وعندي عوضاً من كل واحدٍ من المقتولين من فضلاء نوعه ما لا أقدر أن أحصيه وكل واحد من عسكري يقاوم كردوساً من عسكرك أما من جهة المال فإن عندي معامل الذهب والفضة وأما المعادن فأنها عندي كقطع الحجارة وأما أهل مملكتي فإني لا أقدر أن أصف لك حسنهم وجمالهم وغناهم، فكيف تجاسرت علينا وقلت لنا: ابن قصراً في وسط البحر فإن هذا أمرٌ عجيبٌ ولعله ناشئ عن سخافة عقلك لأنه لو كان لك عقلٌ لكنت فحصت عن دفعات الأمواج وحركات الرياح وأنا أبني لك القصر، وأما زعمك أنك تظفرني فحاش لله من ذلك كيف يبغي علينا مثلك ويظفر بملكنا بل أن الله تعالى يظفرني لكونك معتدياً باغياً علي بغير حقٍ فاعلم أن أمك استوجبت العذاب من الله ومني ولكن أنا أخاف الله فيك في رعيتك ولا أركب عليك إلا بعد النذارة فإن كنت تخشى الله فعجل لي بإرسال خراج هذه السنة وإلا لا أرجع عن الركوب عليك ومعي ألف ومائة ألف مقاتل، كلهم جبابرة بأفيال فسردهم حول وزيرنا وآمره أن يقيم على محاصرتك ثلاث سنوات نظير الثلاثة أيام التي أمهلتها لقاصدك وأتملك مملكتك بحيث لا أقتل منها أحداً غير نفسك ولا أسبى منها غير حريمك. ثم صور الغلام في المكتوب صورته وكتب بجانبها: إن هذا الجواب كتبه أصغر أولاد الكتاب ثم سلمه إلى الملك فأعطاه الملك للساعي فأخذه الساعي وقبل يدي الملك ومضى من عنده شاكر الله تعالى وللملك على حلمه وانطلق وهو يتعجب مما رأى من حذق الغلام، فلما وصل إلى ملكه وكان دخوله عليه في اليوم الثالث بعد الثلاثة أيام المحدودة له وكان الملك في ذلك الوقت ناصب الديوان بسبب تأخير الساعي عن المدة المحددة له فلما دخل عليه سجد بين يديه ثم أعطاه الكتاب فأخذه الملك وسأل الساعي عن سبب إبطائه وعن أحوال الملك وردخان فقص عليه القصة وحكى له جميع ما نظره بعينيه وسمعه بأذنيه فاندهش عقل الملك وقال للساعي: ويحك ما هذه الأخبار التي تخبرني بها عن مثل هذا الملك؟ فأجابه الساعي قائلاً: أيها الملك العزيز ها أنا بين يديك فافتح الكتاب واقرأه يظهر لك الصدق من الكذب فعند ذلك فتح الملك الكتاب وقرأه نظر فيه صورة الغلام الذي كتبه فأيقن زوال ملكه وتحير فيما يكون من أمره، ثم التفت إلى وزرائه وعلمائه وأرباب دولته وأخبرهم بما جرى وقرأ عليهم الكتاب فارتاعوا لذلك وارتعبوا رعباً عظيماً وصاروا يسكنون من روع الملك بكلام من ظاهر اللسان وقلوبهم تتمزق من الخفقان، ثم أن بديعاً الوزير الكبير قال: اعلم أيها الملك إن الذي يقوله أخوتي من الوزراء لا فائدة فيه والرأي عندي أنك تكتب لهذا الملك كتاباً وتعتذر إليه فيه وتقول له أنا محبٌ لك ولوالدك من قبلك وما أرسلنا إليك الساعي بهذا الكتاب إلا على طريق الإمتحان لك لننظر عزائمك وما عندك من الشجاعة والأمور العملية والعلمية والرموز الخفية وما أنت منطوٍ عليه من الكمالات الكلية ونسأل الله تعالى أن يبارك لك في مملكتك ويشيد حصون مدينتك ويزيد في سلطانك حيث كنت حافظاً لنفسك فتتم أمور رعيتك وأرسله مع ساعٍ آخر. فقال الملك: والله العظيم أن هذا ليعجبا عظيماً كيف يكون هذا ملكاً عظيماً معتداً للحرب بعد قلته لعلماء مملكته وأصحاب رأيه ورؤساء جنده وتكون مملكته عامرة بعد ذلك ويخرج منها هذه القوة العظيمة وأعجب من هذا أن صغار مكاتبها يردون عن ملكها مثل هذا الجواب لكن أنا بسوء طمعي أشعلت هذه النار علي وعلى أهل مملكتي ولا أدري ما يطفئها إلا رأي وزيري هذا، ثم أنه جهز هديةً ثمينةً وخدماً وحشماً كثيرةً وكتب كتاباً مضمونه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد أيها الملك العزيز وردخان ولد الأخ العزيز الملك جليعاد رحمه الله وأبقاك، لقد حضر لنا كتابك فقرأناه وفهمنا ما فيه فرأينا فيه ما يسرنا وهذا غاية طلبنا لك من الله تعالى ونسأل الله أن يعلي شأنك ويشيد أركان مملكتك وينصرك على أعدائك الذين يريدون بك السوء واعلم أيها الملك أن أباك كان لي أخاً وبيني وبينه عهود ومواثيق مدة حياته وما كان يرى منا إلا خيراً أو كنا نحن كذلك لا نرى منه إلا خيراً، ولما توفي وجلست أنت على كرسي مملكته حصل عندنا غاية الفرح والسرور ولما بلغني ما فعلت بوزرائك وأكابر دولتك خشينا أن يصل خبر ذلك إلى ملك غيرنا فيطمع فيك وكنا نظن أنك في غفلةٍ عن مصالحك مهملاً لأمور مملكتك فكاتبناك بما ننبهك فلما رأيناك قد رددت لنا مثل هذا الجواب اطمأن قلبنا عليك، متعك الله بمملكتك وجعلك معاناً على شأنك والسلام، ثم جهز له الهدية وأرسلها إليه مع مائة فارسٍ. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. وفي الليلة الرابعة والعشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ملك الهند الأقصى لما جهز الهدية إلى الملك وردخان أرسلها له مع مائة فارسٍ فساروا إلى أن أقبلوا على الملك وردخان وسلموا عليه ثم أعطوه الكتاب فقرأه وفهم معناه ثم نزل قائدهم في محل يصلح له وإكرمه وقبل الهدية منه وشاع خبرها عند الناس وفرح الملك بذلك فرحاً شديداً ثم أرسل إلى الغلام ابن شماس وأحضره من ملكه وأعطاه الكتاب ففتحه وقرأه فسر الملك بذلك سروراً كبيراً وصار يعاتب رئيس المائة فارس وهو يقبل يديه ويعتذر إليه ويدعو له بدوام البقاء وخلود النعم عليه فشكره على ذلك وأكرمه إكراماً زائداً وأعطاه هو وجميع من معه ما يليق بهم وجهز معهم هدايا وأمر الغلام أن يكتب رد الجواب فعند ذلك كتب الغلام الجواب وأحسن الخطاب وأوجز في باب الصلح وذكر أدب الرسول ومن معه من الفرسان. فلما تمم الكتاب عرضه على الملك فقال له الملك: اقرأه أيها الولد العزيز لكي نعرف ما كتب فيه، فعند ذلك قرأه الغلام بحضور المائة فارس فأعجب الملك هو وكل من حضر نظامه ومعناه ثم ختمه الملك وسلمه إلى رئيس المائة فارس وصرفه وأرسل معه من عسكره طائفةٌ توصلهم إلى أطراف بلادهم، هذا ما كان من أمر الملك والغلام. وأما ما كان من أمر رئيس المائة فارس فإنه اندهش عقله مما رآه من أمر الغلام ومعرفته وشكر الله تعالى على قضاء مصلحته بسرعةٍ وعلى قبول الصلح ثم أنه سار إلى أن وصل إلى ملك أقصى الهند وقدم إليه الهدايا والتحف وأوصل إليه العطايا وناوله الكتاب وأخبره بما نظر ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً وشكر الله تعالى وأكرم رئيس المائة فارس وشكر همته على فعله، ورفع درجته وصار من ذلك الوقت في أمن مأمن وطمأنينة وزيادة أشباح، هذا ما كان من أمر ملك أقصى الهند. وأما ما كان من أمر الملك ودرخان فأنه استقام مع الله ورجع عن طريقته الرديئة وتاب إلى الله توبةً خالصةً عما كان فيه وترك النساء جملةً وما لكليته إلى صلاح مملكته والنظر بخوف الله إلى الرعية وجعل ابن شماس وزيراً عوضاً عن والده وصاحب الرأي المقدم عنده في المملكة وكاتماً لسره وأمر بزينة مدينته سبعة أيامٍ وكذلك بقية المدائن ففرحت الرعية بذلك وزوال الخوف والرعب عنها واستبشروا بالعدل والإنصاف وابتهلوا بالدعاء للملك والوزير الذي أزال عنه وعنهم هذا الغم وبعد ذلك قال الملك للوزير: ما الرأي عندك في إتقان المملكة وإصلاح الرعية ورجوعها إلى ما كانت عليه أولاً من وجود الرؤساء والمديرين. فعند ذلك أجابه الوزير قائلاً: أيها الملك العزيز الشأن الرأي عندي أنك قبل كل شيءٍ تتبدئ بقطع أمر المعاصي من قلبك وتترك ما كنت فيه من اللهو والعسف والإشتغال بالنساء لأنك إن رجعت إلى أصل المعاصي تكون الضلالة الثانية أشد من الأول فقال الملك: وما هي أصل المعاصي التي ينبغي أن أقلع عنها؟ فأجابه ذلك الوزير الصغير السن الكبير العقل قائلاً: أيها الملك الكبير اعلم أن أصل المعصية اتباع هوى النساء والميل إليهن وقبول رأيهن وتدبيرهن لأن محبتهن تغير العقول الصافية وتفسد الطباع السليمة والشاهد على قولي من دلائل واضحة لو تفكرت فيها وتتبعت وقائعها بإمعان النظر لوجدت لك ناصحاً من نفسك واستغنيت عن قولي جملةً، فلا تشغل قلبك بذكرهن واقطع من ذهنك رسمهن لأن الله تعالى أمر بعدم الإكثار منهن على يد نبيه موسى حتى قال بعض الملوك الحكماء لولده: يا ولدي إذا استقمت في الملك من بعدي فلا تكثر من النساء لئلا يضل قلبك ويفسد رأيك بالجملة فالإستكثار منهم يفضي إلى حبهن وحبهن يفضي إلى فساد الرأي والبرهان على ذلك ما جرى لسيدنا سليمان بن دواد عليهما السلام الذي خصه الله بالعلم والحكمة والملك العظيم ولم يعط أحدٌ من الملوك الذين تقدموا مثل ما أعطاه فكانت النساء سبباً لهفوة والده ومثل هذا كثير أيها الملك وإنما ذكرت لك سليمان لتعرف أنه ليس لأحد أن يملك مثل ما ملك حتى إطاعة جميع ملوك الأرض واعلم أيها الملك أن محبة النساء أصل كل شر وليس لأحداهن رأي فينبغي للإنسان أن يقتصر منهن على قدر الضرورة ولا يميل إليهن كل الميل فإن ذلك يوقعة في الفساد والهلكة فأن أطعت قولي أيها الملك استقامت لك جميع أمورك وإن تركته ندمت حيث لا ينفعك الندم فأجابه الملك قائلاً: لقد تركت ما كنت فيه من فرط الميل إليهن. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. وفي الليلة الخامسة والعشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الملك وردخان لما قال لوزيره أني قد تركت ما كنت فيه من الميل إليهن وأعرضت عن الإشغال بالنساء جميعاً ولكن ماذا أصنع إليهن جزاء ما فعلن لأن قتل شماس والدك كان من كيدهن ولم يكن ذلك مرادي ولا عرفت كيف جرى لي في عقلي حتى وافقتهن على قتله، ثم تأوه وصاح قائلاً وأسفاه على فقد وزيري وسداد رأيه وحسن تدبيره وعلى فقد نظرائه من الوزراء ورؤساء المملكة وحسن آرائهم الرشيد فأجابه الوزير قائلاً اعلم أيها الملك أن الذنب ليس للنساء وحدهن لأنهن مثل بضاعة مستحسنةٍ تميل إليها شهوات الناظرين فمن اشتهى واشترى باعوه ومن لم يشتر لم يجبره أحدٌ على الشراء ولكن الذنب لمن اشترى وخصوصاً إذا كان عارفاً بمضرة تلك البضاعة وقد حذرتك ووالدي من قبلي كان يحذرك ولم تقبل منه نصيحةً فأجابه الملك أنني أوجبت على نفسي الذنب كما قلت أيها الوزير ولا عذر لي إلى التقادير الإلهية. فقال الوزير اعلم أيها الملك أن الله تعالى خلقنا وخلق لنا استطاعة وجعل لنا إرادة واختياراً فإن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل ولم يأمرنا الله بفعل ضرار لئلا يلزمنا ذنبٌ فيجب علينا حساب فيما يكون لله صواباً لأنه تعالى لا يأمرنا إلا بالخير على سائر الأحوال وإنما ينهانا عن الشر ولكن نحن بإرادتنا نفعل ما نفعله صواباً كان أو خطأ فقال له الملك صدقت وإنما كان خطئي من الميل إلى الشهوات وقد حذرت نفسي من ذلك مراراً وحذرني والدك شماس مرار فغلبت نفسي على عقلي فهل عندك شيءٌ يمنعني عن ارتكاب هذا الخطأ حتى يكون عقلي غالباً على شهوات نفسي. فأجاب الوزير نعم إني أرى شيئاً يمنعك عن ارتكاب هذا الخطأ وهو أنك تنزع عنك ثوب الجهل وتلبس ثوب العدل وتعصى هواك وتطيع مولاك وترجع إلى سيرة الملك العادل أبيك وتعمل ما يجب عليك من حقوق الله وحقوق رعيتك وتحافظ على دينك وعلى رعيتك وعلى سياسة نفسك وعلى عدم قتل رعيتك وتنظر في عواقب الأمور وتنزل عن الظلم والجور والبغي والفساد وتستعمل العدل والإنصاف والخضوع وتمتثل أوامر الله تعالى وتلازم الشفقة على خليقته الذين استخلفك عليهم وتواظب على ما يوجب دعاءهم لك لأنك إذا أدام لك ذلك صفا وقتك وعفا الله برحمته عنك وجعلك مهاباً عند كل من يراك وتتلاشى أعداؤك ويهزم الله جيوشهم وتصير عند الله مقبولاً وعند خلقه مهاباً محبوباً. فقال له الملك لقد أحييت فؤادي ونورت قلبي بكلامك الحلو وجلوت عين بصيرتي بعد العمى وأنا عازمٌ على أن أفعل جميع ما ذكرته لي بمعونة الله تعالى وأترك ما كنت عليه من البغي والشهوات وأخرج نفسي من الضيق إلى السعة ومن الخوف إلى الأمن وينبغي أن تكون بذلك فرحاً مسروراً لأني صرت لك ابنا مع كبر سني وصرت لي أنت والداً حبيباً على صغر سنك وصار من الواجب علي بذل المجهود فيما تأمرني به وأنا أشكر فضل الله تعالى وفضلك فإن الله تعالى أولاني بك من النعم وحسن الهداية وسداد الرأي ما يدفع همي وغمي وقد حصلت سلامة رعيتي على يديك بشرف معرفتك وحسن تدبيرك فأنت الآن مدبراً لملكي لا أتشرف عليك بسوى الجلوس على الكرسي وكل ما تفعله جائزٌ علي ولا أرد لكلمتك وليس يفصلني منك إلا الموت وجميع ما تملكه يدي لك التصرف فيه وإن لم يكن لي خلف تجلس علي تختي عوضاً عني فأنت أولى من جميع ما في مملكتي فأوليك ملكي وأشهد على ذلك أكابر مملكتي، أجعلك ولي عهدي من بعدي إن شاء الله تعالى. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. وفي الليلة السادسة والعشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك وردخان قال لابن شماس الوزير سوف أستخلفك عني وأجعلك ولي عهدي من بعدي وأشهد علي ذلك أكابر مملكتي بعون الله تعالى، ثم بعد ذلك دعا بكاتبه فحضر بين يديه فأمره أن يكتب إلى سائر كبراء دولته بالحضور إليه وجهر بالنداء في مدينته للحاضرين الخاص والعام وأمر أن يجتمع الأمراء والقواد والحجاب وسائر أرباب الخدم أن حضرة الملك وكذلك العلماء والحكماء وعمل الملك ديواناً عظيماً وسماطاً لم يعمل مثله قط وعزم جميع الناس من الخاص والعام فاجتمع الجميع على حظ وأكل وشرب مدة شهرٍ وبعد ذلك كسا جميع حاشيته وفقراء مملكته وأعطى العلماء عطايا وافره فاختار جملةً من العلماء والحكماء بمعرفة ابن شماس وأدخلهم عليه وأمره أن ينتخب منهم سبعةً ليجعلهم وزراء من تحت كلمته ويكون هو الرئيس عليهم فعند ذلك اختار الغلام ابن شماس منهم أكبرهم سناً وأكملهم عقلاً وأكثرهم درايةً وأشرعهم حفظاً ورأى من بهذه الصفات ستة أشخاصٍ فقدمهم إلى الملك وألبسهم ثياب الوزراء وكلمهم قائلاً أنتم تكونون ورائي تحت طاعة ابن شماس وجميع ما يقوله لكم أو يأمركم به وزيري هذا ابن شماس لا تخرجوا عنه أبداً ولو كان هو أصغركم سناً لأنه أكبركم عقلاً، ثم أن الملك أجلسهم على كراسي مزركشة على عادة الوزراء وأجرى عليهم الأرزاق والنفقات ثم أمرهم أن ينتخبوا من أكابر الدولة الذين اجتمعوا عنده في الوليمة من يصلح لخدمة المملكة من الأجناد ليجعل منهم رؤساء ألوف ورؤساء خمسين ورؤساء عشرات ورتب لهم المرتبات وأجرى عليهم الأرزاق على عادة الكبراء ففعلوا ذلك في أسرع وقتٍ وأمرهم أيضاً أن ينعموا على بقية من حضر بالإنعامات الجزيلة وأن يصرفوا كل واحدٍ إلى أرضه بعزٍ وإكرامٍ وأمر عماله بالعدل في الرعية وأوصاهم بالشفقة على الفقراء والأغنياء وأمر بإسعافهم من الخزنة على قدر درجاتهم فدعا له الوزير بدوام العز والبقاء ثم أنه أمر بزينة المدينة ثلاثة أيامٍ شكر الله تعالى على ما حصل له من التوفيق هذا ما كان من أمر الملك ووزيره ابن شماس في ترتيب المملكة وأمرائها وعمالها. وأما ما كان من أمر النساء المحظيات من السراري وغيرهن اللاتي كن سبباً لقتل الوزراء وفساد المملكة بحياتهن وخداعهن فأنه لما انصرف جميع من كان في الديوان من المدينة والقرى إلى محله واستقامت أمورهم أمر الملك الوزير الصغير السن الكبير العقل الذي هو ابن شماس أن يحضر بقية الوزراء. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح. وفي الليلة السابعة والعشرين بعد التسعمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الملك أمر وزيره ابن شماس أن يحضر بقية الوزراء فلما حضروا جميعاً بين يدي الملك اختلى بهم وقال لهم اعلموا أيها الوزراء أني كنت حائداً عن الطريق المستقيم مستغرقاً في الجهل معرضاً عن النصيحة ناقضاً للعهود والمواثيق مخالفاً لأهم النصح وسبب ذلك كله ملاعبة هؤلاء النساء وخداعهن إياي، وزخرفة كلامهن وباطلهن لي وقبولي لذلك لأني كنت أظن أن كلامهن نصحٌ بسبب عذوبته ولينه فإذا هو سمٌ قاتلٌ والآن قد تقرر عندي أنهن يردن لي الهلاك والتلف فقد استحقين العقوبة والجزاء مني لكن على جهة العدل حتى أجعلهن عبرة لمن اعتبر فما الرأي السديد في أهلاكهن فأجابه الوزير ابن شماس قائلاً أيها الملك العظيم الشأن إنني قلت لك أولاً الذنب ليس مختصاً بالنساء وحدهن بل هو مشترك بينهن وبين الرجال الذين يطيعونهن لكن النساء يستوحين الجزاء على كل حال لأمرين الأول تنفذ قولك لكونك الملك الأعظم والثاني لتجاسرهن عليك وخداعهن لك ودخولهن فيما بينهن وحالاً يصلحن للتكلم فيه فهن أحقٌ بالهلاك ولكن كفاهن ما هو نازلٌ بهن ومن الآن اجعلهن بمنزلة الخدم والأمر إليك في ذلك غيره. ثم أن بعض الوزراء أشار على الملك بما قاله ابن شماس وبعض الوزراء تقدم إلى الملك وسجد له وقال أدام الله أيام الملك إن كان لا بد أن تفعل بهن فعلة لهلاكهن فافعل ما أقوله لك فقال الملك ما الذي تقوله لي فقال له أن تأمر إحدى محاظيك بأن تأخذ النساء اللاتي خدعنك وتدخلهن البيت الذي حصل فيه قتل الوزراء والحكماء وتسجنهن هناك وتأمر أن يعطى لهن قليلٌ من الطعام والشراب بقدر ما يمسك أبدانهن ولا يؤذن إليهن في الخروج من ذلك الموضع أصلاً وكل من ماتت بنفسها تبقى بينهن على حالها إلى أن يمتن عن آخرهن وهذا أقل جزائهن لأنهن كن سبباً لهذه الفتنة العظيمة بل واصل جميع البلايا والفتن التي وقعت في هذا الزمان وصدق عليهن قول القائل إن من حفر بئراً لأخيه وقع فيها وما طالت سلامته فقبل الملك رأيه وفعل كما قال له وأرسل خلف أربع محظيات جبارات وسلم إليهن النساء وأمرهن أن يدخلن في محل القتلى ويسجنهن فيه وأجرى لهن طعاماً نيئاً قليلاً وشراباً قليلاً فكان من أمرهن أنهن حزن حزناً عظيماً وندمن على ما فرط منهن وتأسفن تأسفاً كثيراً وأعطاهن الله جزاهن في الدنيا من الخزي وأعدلهن العذاب في الآخرة ولم يزلن في ذلك الموضع المظلم المنتن الرائحة وفي كل يوم تموت ناس منهن حتى هلكن عن آخرهن وشاع خبر هذه الواقعة في جميع البلاد والأقطار وهذا ما انتهى إليه أمر الملك ووزرائه ورعيته والحمد لله مفني الأمم ومحيي الرمم المستحق للتجليل والإعظام والتقديس على الدوام.